رسالة إلى برلمان النرويج حول اتهام الكتب الفلسطينية بالتحريض
تحسين يقين
رسالة إلى برلمان النرويج حول اتهام الكتب الفلسطينية بالتحريض
السادة والسيدات أعضاء برلمان مملكة النرويج الصديقة تحية طيبة من فلسطين وبعد
قبل27 عاما، في أيلول 1993، صرنا كفلسطينيين، وعرب وآخرين، نألف اسم عاصمتكم الجميلة أوسلو، التي منها انطلق أمل حل صراع دموي طويل، وليس من عاصمة دولة كبرى، أو حتى هيئة الأمم المتحدة، ورحنا نتعرف على مملكة النرويج في أقصى الشمال، وعرفنا ضمن ما عرفنا أنكم شعب صغير لكن بلدكم عظيم، يعد من أكبر الدول المانحة للعالم، إنه كرمكم وإنسانيتكم.
الحكمة! ربما هي من نادى بالعمق عليه أرخميدس يوما: وجدتها؛ فالجامع بين العلم والحكمة كبير، وحبذا لو ركزنا جميعا بما هو أكثر جدوى وحكمة، بعيدا عن النزق والانفعال والقرارات السريعة.
في البداية، لنتفق أن زمن المرجعية الواحدة المطلقة انتهى، فليس من مناص الا لنسمع بعضنا، نستمع ونصغي، بعمق من هو جاد في الوصول الى برّ الأمان، إن تهنا في بحر الإنسان ونزاعاته وصراعاته، التي أيضا تميزه، والتي لا يتم شطب تداعياتها وأدبياتها بسرعة، بل تحتاج لوقت هدوء واختبار حقيقي للسلام والاحترام المتبادل، وفتح صفحة جديدة فعلا.
قبل مناقشة خبر «إقراركم في البرلمان النرويجي الموقر تقليص 30 مليون كرونة (أكثر من 11 مليون شيكل إسرائيلي)، من ميزانية المساعدات التي تقدمها النرويج إلى السلطة الفلسطينية؛ وذلك على خلفية اتهام السلطة بتضمين المناهج الدراسية «مواد تحريضية» ضد إسرائيل»، لعلنا نتذكر استعراض نورجير سبارتين ممثل المساعدات النرويجية للشعب الفلسطيني عام 2011 لمنطلقات وأوجه التعاون بين البلدين، الذي أكد على السياسة النرويجية الشاملة في مساعدة الطرفين على إقامة دولتين سياديتين في حدود معترف بها. كان ذلك في افتتاح أسبوع «نظرة على فلسطين ٢٠١١» في أوسلو بتنظيم مؤسستي صابرين وترب. وهو العام الذي تشرفت به بزيارة بلدكم، حيث عدت وكتبت عدة حلقات عن النرويج الجميلة.
استمعنا له في قاعة دار الأدب وهو يستذكر تاريخ النرويج منذ 150 عاما حيث لعبت الثقافة والفن دورا قويا في الاستقلال، والتخلص من الاتحاد الإجباري مع السويد؛ فدور الدولة أعظم من مجرد إيجاد أشكال الدولة من حكومة وبرلمان وخدمات ونظم وقوانين، حيث يتجاوز الدور إلى تأكيد الهوية الثقافية وللشعب الفلسطيني أن يعتز بتراثه العريق.
أعجبت بسبارتين حين بدأ بسؤال عن علاقة الفن والموسيقى والأدب بالسياسة، مشيراً إلى الاتجاهين المعروفين في الفن: الفن للفن، والفن للمجتمع وقضايا الهوية وغيرها، معتبراً أن الفهم الثاني ينطبق على الفن في فلسطين. من هنا فإن النرويج تقدر التعبير الثقافي الفلسطيني الذي يؤكد على الهوية الوطنية من جهة ويدعم بناء دولة فلسطين من جهة ثانية.
لكن شعور النرويجيين بالهوية الوطنية سبق الاستقلال بالطبع، «فبعد الاتحاد مع السويد شهدت هذه الفترة أيضا ظهور النزعة القومية الرومانسية النرويجية، حيث سعى النرويجيون لتعريف هوية قومية متميزة لهم. وقد شملت الحركة جميع فروع الثقافة بما في ذلك: الأدب، حيث برز من الأدباء القوميين: هنريك فيرغيلاند (1808-1845) وبيورنستيرن بيورنسون (1832-1910) وبيتر كريستين أسبيورنسون (1812-1845) ويورغن مو (1813-1882)؛ أما من الرسامين فبرز: هانز غود (1825-1903) وأدولف تيدماند (1814-1876). وفي الموسيقى لمع نجم إدوارد غريغ (1843-1907)، وحتى في موضوع اللغة حيث برزت محاولات لتحديد لغة أصلية مكتوبة للنرويج التي نجم عنها وجود كتابتين اثنتين رسميتين للنرويجية في الوقت الحالي هما البوكمول النينوشك».
ولنا أن نقرأ شيئا عن أنه خلال السنوات الخمس من الاحتلال النازي، أسستم أنتم النرويجيين حركة مقاومة حاربت الاحتلال الألماني وأعلنتم العصيان المدني والمقاومة المسلحة، وقام آباؤكم بتدمير محطة نورسك هيدرو للمياه الثقيلة ومخزون من المياه الثقيلة في فيمروك، ما شل البرنامج النووي الألماني. أما العنصر الأكثر أهمية للحلفاء فكان دور البحرية التجارية النرويجية، إذ أن البلاد امتلكت في وقت الغزو رابع أسطول تجاري بحري في العالم. أدارت شركة الشحن النرويجية «نورتراشب» الأسطول تحت إدارة الحلفاء خلال الحرب، حيث كان دورهم إخلاء دونكيرك تمهيدًا لعملية الإنزال في النورماندي.
لعل بعض التاريخ يضيء على الحاضر، ويفسّر سلوك دولة مثل النرويج تجاه فلسطين، وهو سلوك متضامن انطلق من تجربة تاريخية للنرويج تحت نفوذ دولة أخرى.
وربما كان الحالة الفلسطينية في باله، حين دعا الى التأكيد على الحق في التعبير في السياق السياسي، وضرورة الوثوق بدور الثقافة في الكفاح الوطني.
وبعد، فهل فعلاً بدأت دولة إسرائيل بفتح صفحة جديدة مع الشعب الفلسطيني؟
هل منحنا الفرصة باختبار حقيقي للسلام والاحترام المتبادل؟
بلد صغير وتاريخ كبير وعميق، كانت عيوني مسحورة بجمال بلدكم؛ فجمال الطبيعة هنا فوق استطاعتي بالتعبير، كنت أتحدث مع الناس، لكن كنت هناك، عند الأفق، أتسلق التلال والأشجار، أهبط إلى الوديان والأنهار.. احتفال الألوان هنا يثير فيّ انفعالات تجعلني متآلفاً مع الطبيعة.. ما أجمل اخضرار الأرض والغيوم، والماء والسماء.. كل هذه الطبيعة جميلة.
الغريب أنني هنا في بلاد الشمال البعيدة، كنت أفاجأ بأن أبناء النرويج يعرفون فلسطين، وكنت أسعد بأنهم يحبون شعبنا ويتضامنون معه.. ليس ذلك على مستوى النخبة، بل إن الناس العاديين يعرفوننا ويحبوننا..
عودة للخبر، لقد «اتخذ البرلمان النرويجي قراره بعد حملة واسعة من قبل معهد البحوث والسياسة IMPACT - se الذي استعرض أمام لجنة الخارجية والأمن في البرلمان، ووزارة الخارجية النرويجية ونواب نرويجيين من كل الأحزاب، تقريراً يقول إنه لم يتم إجراء أي تغييرات جذرية على الخطة التعليمية الفلسطينية الجديدة هذا العام، وأنها بقيت «محرّضة ومتطرفة»، رغم التعهدات الفلسطينية للمجتمع الدولي».
كنا نود أولاً لو فحص المعهد نفسه محتويات كتب المناهج الإسرائيلية، وكنا نود لو بدلاً من الاتهام بالتحريض، المساعدة بالاستمرار بحل الصراع، الذي بدأ في أوسلو الجميلة عام 1993، من خلال التأمل الوافي والشامل، وفهم كل المنطلقات، والمساعدة فعلاً في تغيير منظومة شاملة تضم التربية والتعليم في إسرائيل..
يذكر المعهد في تقريره، أن الكتب المدرسية، لا تزال تتضمن «عنفاً»، ترى ما بالك بمن يمارسه بشكل بشع الى آخر مدى، بقتل المدنيين الفلسطينيين، دون استثناء حتى الأطفال!
يقول السيد المسيح في (إنجيل لوقا 6: 41) «لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟»، وأظن أن ذلك يكفي لمن أراد فعلاً الاعتبار.
السؤال كيف نلوم المقهورين على فعلهم مهما كان (علماً أنه يتم المبالغة جدا في اعتبار مناهجنا تحريضية)، ولا نلوم من يمارس القهر!
ليست القضية «الـ 11 مليون شيكل، لأن الشعب الفلسطيني (والحكومة) سيجدان طرقاً لتمويل التربية والتعليم، لكن القضية بنظر كل موضوعي، أننا إزاء حالة انحياز غير مبرر مع إسرائيل ضد فلسطين. للأسف أن ذلك يحدث من حضراتكم/ن.
ثمة دور لكم ولكل موضوعي ونزيه في العالم، في المساعدة في البحث الموضوعي، واحترام الخصوصيات والتراث والتاريخ، ونقل الخبرات في مجال كتابة الثقافة القومية والتاريخ، بحيث يكون إيراد الحقائق بعيدا عن التحريض، فتلك خبرات نوعية، لأن ذلك أفضل من وقف التمويل.
المسؤولية مشتركة، ولكن لعل البعد العملي الحقيقي سيكون حينما يشعر الفلسطينيون طلبةً ومعلمين ومؤلفين بأنهم أحرار، ولا أحد ينتقص من كرامتهم؛ فهلا فعلاً فكرت حكومات إسرائيل المتعاقبة بالسلام الحقيقي المستند للانسحاب من الأرض المحتلة؟ هذا هو بيت القصيد سادتي وسيداتي أعضاء برلمان مملكة النرويج الصديقة.
وأخيراً أتذكر هنا ما قاله ممثل المساعدات النرويجية قبل عقد من السنوات، عن دور الثقافة والفن في الاستقلال. وأتذكر صراعات ونزاعات كثيرة احتاج حلها لفتح صفحة جديدة.
نرجو من حضراتكم ممثلي شعب مملكة النرويج إعادة النظر في القرار، وفعل ما يسهّل ويقرّب وجهات النظر، والانحياز للمقهورين في الأرض المحتلة.
الأيام الفلسطينية