أوراق إسرائيلية..
"هآرتس": حركة احتجاج ضخمة تطالب بتعديل الأخطاء الإسرائيلية.. أمل زائف
بقلم: يغئال عيلام
"هآرتس": حركة احتجاج ضخمة تطالب بتعديل الأخطاء الإسرائيلية.. أمل زائف
متابعات: التظاهرات الصاخبة في أرجاء البلاد في الأسابيع الأخيرة حدث مؤسس، لم يحدث مثله في تاريخ دولة إسرائيل. التظاهرات الحازمة بقيادة الجيل الشاب من المشكوك فيه أن يكون بالإمكان احتواؤها وتهدئتها بكلمات فارغة وبحيل مخادعة. السياسة بمجملها كما يبدو لن تعود كما كانت. في أعقاب هذه التظاهرات ربما سينطلق نقاش واسع ومعمق سيمس جذور الأزمة الثلاثية - السياسية والاجتماعية والصحية الواقعين تحتها، وسيطرح مطالبة بإصلاح أساسي، سيغير طابع السياسة الإسرائيلية وطابع النظام. هذا هو الأمل.
لن يجتاز بنيامين نتنياهو هذه التظاهرات. حتى لدى العديدين من مؤيديه التقليديين طفح كيل الخجل. الميل السائد أن ينسب إلى الرجل قوى شيطانية مفسدة يخطئ بصورة مبالغ بها الهدف. ليس نتنياهو هو الذي أفسد النظام السياسي في إسرائيل. هذا النظام أُفسد وشُوّه منذ فترة طويلة. عن نتنياهو يمكن القول: إنه لم يتجاوز أي شرخ في السور، وفي هذه الأثناء ينجح في ذلك، وعن حالة نتنياهو قال حكماؤنا: ليس الفأر هو السارق بل الثقب هو الذي سرق. فقط شخص بائس تماماً منفلت العقال وعديم الخجل يتجرأ على أن يستغل بهذه الصورة النهج الإسرائيلي، ويقوم بعمل زمري، ويطالب بأجر بنحاس.
إن الشعار القاطع «فقط ليس بيبي» هو شعار صحيح ومحق. هذا الرجل إهانة للذكاء والذوق الرفيع. ولكن يوجد من يسألون وبحق: من سيأتي بعد نتنياهو؟ هذا سؤال محرج. من جانب يصرون على تقليص النقاش والتركيز على الجانب القيادي الشخصي. يسألون من سيكون الأفضل - بني غانتس، يائير لبيد، أم نفتالي بينيت؟ كم تبدو الإجابة واضحة: من أجل كل الأسباب التي من أجلها يطالبون بإزاحة نتنياهو، يمكن الموافقة على كل مرشح ليس مشكوكاً في نزاهته. بيد أن دودة الشك لا تتوقف: هل كل ما هو مطلوب زعيم مستقيم؟
غانتس على سبيل المثال هو شخص مستقيم حسب كل الدلائل، ولكن عالم مفاهيمه لا يختلف عن عالم مفاهيم نتنياهو؛ وربما أضيق. هو ليس كاذباً أشر مثل نتنياهو، من أجل أن يكون شخصاً كهذا يجب أن يتحلى بمؤهلات خاصة، ولكنه عالق في الشبكة المفاهيمية المشوهة ذاتها، والتي طبقاً لها تجري الحياة السياسية هنا.
يبدأ التشويه بإنكار الجوهر المدني للدولة. إنكار كهذا يغفل التبرير الحصري لوجود أي دولة. ولا بأي حال من الأحوال يجب أن نرى في الدولة أداة تنفيذية لأي مجموعة عرقية أو ثقافية، وبالتأكيد ليس لدين معين. حيث إن كل مشاكل الدول في العالم الإسلامي تنبع بصورة مباشرة من تدخل الإسلام في حياة الدولة، ومن حقيقة أنه حسب رؤية الإسلام فإن الدولة أداة تطبيق وتنفيذ للدين. هذه المقاربة تتناقض بصورة تامة مع الرؤية التي ترى في الدولة نظام حكم سيادي، غير خاضع لأي نظام خارجه وهي ملتزمة في المقام الأول بسلامة ورفاهية سكانها - مواطنيها، دون تفريق حسب الدين أو الجنس أو العرق. الدولة هي في المقام الأول دولة مدنية، دولة كل مواطنيها.
حسب رؤية الدين اليهودي، فإن الدولة لا لزوم لها. تمثل الدولة سلطة سيادية، قطرية وعلمانية في جوهرها، لا تتساوق مع سيادة الإله. من خلال اليهودية التاريخية لم تطرح مطلقاً المطالبة بإنشاء دولة لليهود. فقط بفضل عمليات الحداثة - التعليم والتحرر الذاتي - والتي جرت وسط أوروبا وشرقها في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، تشكلت كتلة اليهود العلمانيين والذين تجمعوا حول الفكرة القومية – التي ترى في اليهود كياناً قومياً وليس دينياً - ومن داخلهم خرجت المطالبة بتأسيس دولة لليهود.
اندمج هذا المطلب مع اليقظة القومية التي اجتاحت شعوب شرق أوروبا ووسطها، وهناك تشكلت الرؤية القومية التي دعت إلى أن الدولة تنتمي للقومية المحلية المهيمنة: بولندا للبولنديين، هنغاريا للهنغاريين، وألمانيا للألمان. كانت تلك رؤية مناقضة تماماً لمفهوم الدولة المدنية. أصل كل الحروب والنزاعات في أوروبا في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين ومن بينها الحربان العالميتان، كان محاولة تجسيد نموذج الدولة القومية المليئة بالتناقضات. تبنت دولة إسرائيل لدى تأسيسها نموذجاً هجيناً: من جانب النموذج القومي كما في شرق أوروبا، ومن جانب آخر النموذج المدني الذي أملاه قرار الأمم المتحدة الصادر في تشرين الثاني 1947، والذي بنوده الأساسية مشار إليها في إعلان استقلال الدولة. ولكن الدولة لم تنفذ التعهد الذي أخذته على عاتقها بصياغة دستور حسب اشتراطات قرار الأمم المتحدة، والتي عكست بالطبع مبادئ الدولة المدنية. السبب في ذلك واضح: كان الدستور سيوضح علاقات الدين والدولة، وبالضرورة كان سينص على مبدأ الفصل بينهما. علاوة على ذلك، كان الدستور سيمنع تشويهات التشريع الناتجة عن التصور الذي يرى في إسرائيل دولة يهودية. مؤسسو الدولة خافوا من ثقل المهمة. الخيار الذي كان أمامهم، إما اليهودية أو الدولة كان خياراً ثقيلاً عليهم، لقد كانوا أسرى لرواية كاذبة، عرضت الصهيونية كاستمرار طبيعي لليهودية التاريخية. ولكن اليهودية التاريخية كانت أمة دين مناوئة للدولة، في حين أن الصهيونية كانت ثورة ثقافية ضخمة. في «أرض إسرائيل» الانتدابية نمت ثقافة محلية، أصلية إسرائيلية، استخدمت كقاعدة صلبة للثقافة الإسرائيلية المعاصرة.
لم يرتق المؤسسون إلى مستوى المهمة. فقد تهربوا من المسؤولية، وأجلوا للمستقبل غير المحدد القرارات المطلوبة - فصل الدين عن الدولة وصياغة دستور. لقد اختبؤوا خلف الادعاء بأن هذا الجيل ما زال غير ناضج لقرارات حازمة كهذه. أمام أعينهم وقفت كما يبدو كل الأجيال اليهودية من الماضي، والذين منذ أيام كورش وفي عهد البيت الثاني فضلوا البقاء في المنفى وأن يقبلوا هناك حكم سلطة أجنبية، وعدم الوقوف ثانيةً أمام خيار إما الدولة أو سلطة الدين.
سنذهب لانتخابات. هذا أمر غير مشكوك فيه. ولكن أيضاً هذه الانتخابات لن ينتج عنها قرار حاسم. الانقسام بين كلا المعسكرين (اليمين واليسار - الوسط) جوهري. هو يقسم الجمهور إلى اثنين، ومن غير المتوقع أن يتغير. التغييرات الحقيقية لم تكن في يوم من الأيام نتيجة لعمليات داخلية، بل نتيجة لضغوطات خارجية. لهذا فإن من يؤمنون بإمكانية تغيير نظام (حركة، حزب، مؤسسة) من الداخل يفشلون دائماً. إن سذاجة غانتس ورجاله، والذين دخلوا إلى حكومة نتنياهو من خلال الاعتقاد بأنهم سينجحون بالتغيير على نهجها وسياسيتها، وسيحدثون تغييراً من الداخل، هو أمر مفجع حقاً.
والأكثر إفجاعاً هو الاعتراف بأنه حتى بعد إزاحة نتنياهو فإن التعادل السياسي سيظل على حاله. الأمل بانطلاق حوار جماهيري معمق، يقود إلى إيقاظ حركة احتجاج ضخمة مطالبةً بتعديل العيوب الأساسية لإسرائيل - غياب دستور وعدم فصل الدين عن الدولة - ثانية سيتضح أنه أمل زائف. ستعود السياسة الإسرائيلية للتمركز في مياه ضحلة، الأزمة الثلاثية - الاقتصادية، الاجتماعية، الصحية - ستتعاظم ولن تختفي من حياتنا. وعلى خلفية عمليات العولمة – التي تؤثر عميقاً ليس فقط على اقتصادات الشعوب، بل أيضاً على ثقافاتهم وهوياتهم - سيزداد هنا الميل للهجرة والتشتت، بدايةً للنخب الإسرائيلية. ربما فقط حينئذٍ من سيتبقون هنا سوف يجمعون قوتهم ويحدثون تغييراً حقيقياً.
«هآرتس».. عن الايام