جواب عباس على إضراب غزة
عدلي صادق
جواب عباس على إضراب غزة
الكوفية قوبل الإضراب الذي نظمه القطاع الخاص في غزة يوم الثلاثاء المنصرم، بمرسوم من عباس أعاد به فرض ضريبة القيمة المضافة، على سكان قطاع غزة. ذلك بمعنى أن شكوى قطاع غزة من الآلام الاقتصادية، ليس له عند عباس سوى المزيد من الإيلام، على أن يتكفل الانتهازيون الموالون، بالتغطية مستخدمين عُدة النَصب، وهي أن "القضية تمر بمنعطف خطير والرئيس يقاوم ترامب".
المؤشرات الاقتصادية في قطاع غزة وصلت الى مستوى غير مسبوق من التدني وأبرزها ارتفاع معدلات البطالة إلى 46%، وارتفاع معدلات الفقر لتتجاوز 65%، وفقدان 50% من السكان أمنهم الغذائي، وتدني مستوى القدرة الشرائية وشُح السيولة النقدية، بمستوى غير مسبوق، جعل السكان التواقين الى الحرية والاستقلال، يستذكرون أيام الاحتلال، التي كانت رخاءً اقتصادياً متزامناً مع ذُرى الكفاح الوطني المسلح وتصاعد المقاومة!
كان الإعلان عن إعفاء غزة من الضرائب، نوعاً من الأداء المسرحي لذر الرماد في العيون، وللتعمية على كل التدابير الاقتصادية الخانقة، التي فرضها عباس على غزة بذريعة حماس. ذلك علماً بأن رمي غزة في حضن حماس، في عملية ملعوبة ومعقدة، كانت أصلاً من تأليف وإخراج عباس بهدف ابتلاء غزة وحماس وفتح والطيف السياسي كله، وتلك في الأساس مشورة إسرائيلية وأمريكية. فهو الذي أصر على إجراء انتخابات يناير 2006 رغم معرفته أن فتح قد ترهلت كتنظيم لصالح مجموعات المقاومة، وأن حماس ستفوز، لأنها حافظت على عنصريْ التنظيم والمقاومة، ما يعني أن غزة سيجري تأطيرها ومحاصرتها، ورميها جانباً، وجعلها منطقة تأكل بعضها وتشتغل على بؤسها بنفسها. فلم يسع الصاعد الى الحكم في ظروف كارثية، الى إعادة بناء التنظيم، ولا الى حوار مع القوة الحمساوية الغالبة، للإجابة عن أسئلة الممكن والمستحيل، للتوافق على استراتيجية عمل وطني واحدة. ففي تلك المرحلة، انطلقت عملية تعذيب وخنق القاعدة الاجتماعية لحركة المقاومة في غزة، بشقيها الوطني والإسلامي. وقد ابتلعت حماس الطُعم وسقطت في غواية الحُكم وانقضّت على النظام السياسي. ولأنها تفتقر الى الرؤية الاستراتيجية والتاريخية في العمل الوطني، توهمت أنها بالسيطرة على غزة، ستكون قادرة على إهداء جماعة "الإخوان" في الإقليم، جغرافيا سياسية، ولو بحجم غزة، تُضفي عليها المقاومة أهمية كبرى، وتفتح الباب واسعاً للأوهام، ولرواج خطاب العنفوان الذي يبشر بتحرير الأندلس بعد فلسطين. وما جرى بعد ذلك، هو امتناع الإقليم، وبتأييد من عباس، على ألا يكون هناك منفذ بري أو بحري أو جوي للمنطقة، بذريعة أن من يحكمون غزة، جزءٌ من تيار أصولي في الإقليم، ليس لديه تصريح بالوصول الى الحكم، ولا أن يمتلك حدوداً مفتوحة، إلا بالتوافق مع الأمريكيين ووأد المقاومة والاعتراف بمشروعية إسرائيل. وفي تلك المرحلة من السياق، أصبح إغلاق المنفذ البري الوحيد، تدبيراً وفق رؤية الإقليم والقوى النافذة فيه، وتولى "الموساد" بدوره، تخليق الإرهاب في سيناء، لكي يتعزز التدبير ويمتد زمنياً، ولكي تصبح سيناء جرحاً مفتوحاً وعبئاً على الدولة المصرية، يسهل الاستغناء عن الجزء المؤلم منه، وتوظيفه في محاولات تطبيق صيغة للتسوية. هكذا كان ولا زال العدو والأمريكيون يفكرون. وظلت أرض غزة مسرح العملية التي يجري تغطيتها في "المقاطعة" بكلام مخادع عن المصالحة والسلطة الواحدة والسلاح الواحد!
في المحصلة، أصبحت غزة، بكل من فيها، تعاني ويئن الفتحاويون والحمساويون والسكان، وكلما تعمق بؤسهم، ظل عباس يدفع الى المزيد من البؤس. من هنا جاء القرار الأخير بتوجيه ضربة إضافية للوضع الاقتصادي في قطاع غزة وزيادة الأعباء المالية برفع أسعار السلع من خلال إعادة الضريبة المضافة، ورفع خدمات الاتصال على المواطنين الذين يتنفسون ويعبرون عن أرائهم من خلال برامج التواصل، عبر شبكة الانترنت التي ستعلو أكلافها.
لم يتبق أمام المليوني مواطن وفي طليعتهم النُخب الاجتماعية والسياسية في قطاع غزة، إلا اجتراح صيغة للتوافق على برنامج وطني وحراك اجتماعي سياسي، لمواجهة هذه الحال المزرية، وحماية الثوابت الفلسطينية، وتخليق وسائل تأثيرها في السياسات الإقليمية والدولية. فالثوابت ليست مادة للتلاعب الخطابي، فهي تحتاج الى عمل على الأرض، وهذا ما نفتقر اليه، وما يعاني منه الوطن والشعب الفلسطيني في كل المناطق. ففي مواجهة الهجمة الصهيونية والأمريكية علينا، لن ينوب عن الشعب الفلسطيني رجل واحد يمتلك البراعة في الخداع، ويراهن على أصوات ملعوبة، من جانب العدو، لكي يروّج لنفسه ويكرس لحكمه شرعية تتضمن كل عناصر سقوطها، من التنسيق الأمني والاستكاف عن إنجاز المصالحة، وشق فتح وفساد وبذخ الحلقات الموالية، والقبضة الأمنية التي تمارس ضغوتها على الناس في الضفة الفلسطينة.