مفارقات اختلال البوصلة
عدلي صادق
مفارقات اختلال البوصلة
ترتسم بعض الوقائع، وتطرأ بعض التطورات، فتحتار بوصلة بعض الناطقين باسم النظام السياسي الفلسطيني وتنقلب أو تفقد القدرة على تعيين موضع أصحابها لكي يعرفوا أين يقفون!
فقد وقع حادثان، جعلا هذه البوصلة تختل. أولهما ارتقاء الشهيد أحمد إسماعيل جرار الى الملأ الأعلى، شهيداً بطلاً على درب برهان وأسامة جرار وغيرهما من العائلة الكريمة والشعب، والثاني يمثله نبأ استهداف الأمريكيين ومن ورائهم العدو، لمنظمة "أونروا" بوظيفتها الدالة على التهجير الصهيوني لشعبنا من أرضه، وضرورات إغاثة البشر المنتكبين.
في حدث جنين، كنا بصدد اثنين وأحمدين اثنين باسليْن، من عائلة جرار، الشهيد أحمد إسماعيل إبن عم الحي الذي اختفى أحمد نصر. كان الثاني هو هدف قوة الاحتلال، لكن الأول خفّ لمشاركته في المعركة على الطرف الغربي من مخيم جنين، ونجح في تغطية انسحابه، بالبندقية التي يملكها، وبعد أن أكمل مهمته استشهد. أما الثاني، أحمد نصر، فقد انسحب، وهو نجل الشهيد نصر خالد جرار، المقاوم الفلسطيني من كتائب القسام، الذي يظل يقاتل حتى بعد أن أقعد، وقضى شهيداً، قبلئذٍ كان نصر والد أحمد، قيد الاعتقال الإداراي لخمس سنوات ورُويت عن صموده روايات ومآثر، تبعث على الفخر .
بعد هذا الحدث، تحدثت أسرة الشهيد أحمد إسماعيل، وهو من منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية، أن أبنها أحمد، اعتقل قبل أشهر لدى السلطة، على خلفية امتلاك البندقية الخاصة، وصمد أمام التعذيب وتحمل الشتائم، وكُسرت يده، ولم يعترف أن لديه بندقية، وبعد خروجه من السجن، روى لأسرته أن ضابطاً يُدعى رائد من قباطية، مع خمسة معاونين، تولوا تعذيبه.
بعد استشهاده اضطربت البوصلة، وطَفَق الناطقون باسم الأجهزة الأمنية والنظام السياسي الفلسطيني، يباهون بالشهيد وبالبندقية المُحرّمة، وكأن الشهيد أحمد إسماعيل نصر، تلقى التعليمات بتغطية انسحاب ابن عمه، من قادة التنسيق الأمني، أو كأن المقاومة هي منهج متبع، لدى هؤلاء القادة، أو كأن فلسطينياً واحداً، يشك في وطنية أبنائنا منتسبي الأجهزة الأمنية أو يرى المشكلة فيهم، وليست في قادتهم غير المؤهلين أصلاً للعمل الأمني ببعده المقاوم!
البوصلة في اختلال توازنها، تقتنص اللحظة، وسرعان ما يجري تعديلها في السياق الآخر، هو منع المقاومة ومطاردة المقاومين!
أما في حكاية الخطر الذي يتهدد "أونروا" بالزوال، فقد اجتمعت أصوات الناطقين باسم النظام السياسي الفلسطيني على الصراخ احتجاجاً على الموقف الأمريكي المتعلق باحتباس إسهام الولايات المتحدة، إحد صنّاع النكبة، في موازنة هذه المنظمة الدولية المخصصة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين. وكأن منع المساعدة الأمريكية عن "أونروا" أفدح وأكثر انحطاطاً من منع السلطة نفسها إعطاء سكان غزة حقوقهم. فالبوصلة هنا تختل وتهذي، وتسابق الانحطاط الأمريكي المنقلب على التوافق الدولي على تغطية موازنة "أونروا". واللافت أن أصحاب البوصلة الراقصة المختلة، لم يدركوا أن الأجدر بهم، قبل أن يعيبوا على الأمريكيين جفاءهم وسوء مقاصدهم، بينما هم ليسوا أحبابنا ولا أشقاءنا ولا سندنا في السراء والضراء، ولا قتلاهم أشقاء شهدائنا؛ أن يتذكروا ما يفعلونه في غزة وما يجاهرون به من سفاهات وممارسات إقصائية، ويسمونه عقوبات. ربما هم لم يتنبهوا الى أن بوصلتهم عندما تضطرب وتنقلب، تأخذهم الى كوميديا سوداء مثيرة للسخرية!
لعل من مفارقات اختلال البوصلة، أن البندقية التي يباهون بها، كانت محرمة، وقد أعطاها الشهيد شرعيتها بدمه، أما الوقاحة الأمريكية في موضوع "أونروا" فهي ليست من جنس العمل الذي يؤديه أصحاب البوصلة وحسب، وإنما هي أفضح وأحط من الممارسة المديدة ضد شعبنا في غزة!