نشر بتاريخ: 2019/05/31 ( آخر تحديث: 2019/05/31 الساعة: 16:25 )
جاكوب هورنبرجر

أمريكا «الآمرة الناهية»!

نشر بتاريخ: 2019/05/31 (آخر تحديث: 2019/05/31 الساعة: 16:25)

في عام 1821، حذر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كوينسي آدامز من مغبة أن تصبح الولايات المتحدة «الآمرة الناهية» في العالم.

كانت حجة آدامز هي أنه إذا ما تخلت أمريكا عن مبدأ عدم تدخل سياستها الخارجية في شؤون الدول الأخرى، وهو المبدأ الذي كان في صلب إعلان استقلال الولايات المتحدة، فإنها سوف تصبح حتماً «آمرة ناهية» في العالم، وسوف تتصرف على هذا الأساس.

واليوم، لا أحد يمكنه أن ينكر أن توقع آدامز قد أصبح حقيقة. إذ إن أمريكا أصبحت حقاً آمرة ناهية - متغطرسة، وغاشمة ووحشية لا تطيق أي معارضة لها من أي كان في العالم.

وأود أن أوضح أمراً. أنا أستخدم تعبير «أمريكا» لأنه التعبير الذي استخدمه آدامز. ولكن في الحقيقة، ليست أمريكا هي التي أصبحت الآمرة الناهية في العالم، وإنما هي الحكومة الأمريكية.

وهناك مثال جيد على هذه الظاهرة، هو قضية منغ وانزو، المواطنة الصينية التي تتولى منصب المديرة التنفيذية لشركة الاتصالات الصينية العملاقة «هواوي»، والتي أوقفتها السلطات الكندية ووضعتها قيد الإقامة الجبرية في منزلها.

وما هي جريمتها المزعومة ؟ السلطات الكندية اعتقلتها بناء على طلب من الحكومة الأمريكية التي ادعت أن وانزو انتهكت العقوبات الأمريكية على إيران.

وما شأن العقوبات الأمريكية على إيران في قضية وانزو ؟ هنا بيت القصيد !. إنها مواطنة صينية وليست أمريكية.

ولماذا أحالتها الحكومة الأمريكية إلى المحاكمة ؟ لأن العقوبات أصبحت أداة قاعدية في السياسة الخارجية الأمريكية. والهدف من العقوبات هو استهداف مواطنين أجانب بالحرمان الاقتصادي، والمعاناة، وحتى الموت، من أجل إرغام حكوماتهم على الرضوخ لإرادة «الآمرة الناهية» الأمريكية.

وهل هناك شيء أكثر قسوة ووحشية من استهداف أشخاص أبرياء وسجنهم، وحتى الحكم عليهم بالإعدام، كوسيلة للضغط على حكوماتهم ؟.

إن معظم مواطني العالم، بمن فيهم الأمريكيون، ليس لديهم أي تأثير يذكر على أعمال حكومتهم. ولهذا فإن استهداف أشخاص أبرياء - خصوصا كوسيلة لتحقيق هدف سياسي - هو عمل لا أخلاقي، أوليس الناس في كل أنحاء العالم يدينون الإرهاب لهذا السبب بالذات؟

وأحد أبرز الأمثلة على ممارسة الحكومة الأمريكية لمبدأ الأمر والنهي هو عقوباتها على العراق في تسعينات القرن الماضي، وهي العقوبات التي قتلت مئات الآلاف من الأطفال العراقيين. وموت أولئك الأطفال لم يزعج «الآمرة الناهية» إطلاقا. إذ إن سياستها كانت قائمة على أساس أنه إذا قتلت العقوبات أعداداً كبيرة من الناس، فإن الديكتاتور العراقي صدام حسين سوف يتنازل عن السلطة - لصالح ديكتاتور آخر توافق عليه الحكومة الأمريكية - وإلا فسوف يقع انقلاب أو تتفجر ثورة عنيفة، ما يحقق الهدف ذاته.

وقد عبرت وزيرة الخارجية الأمريكية في حينه مادلين أولبرايت عن هذا الموقف الرسمي الأمريكي بإعلانها في تصريح شهير - ومخز - أن تحقيق هذا الهدف الأمريكي «جدير» بأن يكون ثمنه موت نصف مليون طفل.

وقد عانى مواطن أمريكي يدعى بيرت ساكس من عذاب ضمير، فسافر إلى العراق حاملا أدوية من أجل مساعدة عراقيين. فما كان من الآمرة الناهية إلا أن لاحقته قضائياً، ما أدى إلى فرض غرامة مالية باهظة عليه، ثم واصلت تطبيق عقوباتها على العراق لمدة حوالي عقد آخر.

وهذا بحد ذاته عمل شرير. ولكن هنا تظهر كل أهمية موقف جون كوينسي آدامز. إذ إن حكومة الولايات المتحدة لم تكتف فقط بإلزام مواطنيها بالامتثال لهذه العقوبات الشريرة، بل إنها فرضت أيضاً على العالم كله، بصفتها الآمرة الناهية، أن يلتزم بنظام العقوبات الشرير هذا. لقد ادعت الآمرة الناهية أنها تتمتع بسلطة قضائية عالمية تجيز لها فرض نظام عقوبات أثيم.

ولهذا السبب اعتقلت منغ وانزو في كندا. نعم، في كندا !. فهذا يتيح للولايات المتحدة مطالبة كندا بأن تسلمها المواطنة الصينية من أجل محاكمتها.

هذه هي نتيجة تخلي الولايات المتحدة عن مبدأ عدم التدخل، الذي كان مبدأ أساسياً في سياستها الخارجية. ونحن ندرك اليوم أهمية التحذير الذي أطلقه جون كوينسي آدامز قبل نحو 200 سنة.

* صحفي وكاتب أمريكي أسس ويدير موقع «مؤسسة مستقبل الحرية» الإعلامي - موقع «www.fff.org»

الخليج الاماراتية