تحقيق رث وسياق أرعن
عدلي صادق
تحقيق رث وسياق أرعن
أُسدل الستار على المشهد الأخير من سردية التحقيق الحمساوي في متفجرة الحمد الله؛ بخسارة أربعة شباب فلسطينيين، من الشرطة ومن المطلوبين، قتلوا برصاص فلسطيني، ولكلٍ منهم أسرته وعائلته وأحبابه وأحلامه ومن يحزنوا لفقده!
مهما تكن التبريرات للدموية التي اتسم بها المشهد الأخير، فإن ما حدث يفتقر الى المنطق، ويؤكد على الرعونة ويدحض الفرضية التي تزعمها سلطة حماس في غزة لنفسها، من الذكاء والنفاذ والقدرة على كشف الخبابا، ولن يُغيّر من هذه الحقيقة المشبعة بالتخلف، الحديث عن طائرات مسيّرة تتابع الحدث الأمني وتبث صوراً له، مثلما هو الحال في الولايات المتحدة مثلاً. فما حدث، يذكرنا بدموية الفوعة الحمساوية الأولى، التي عولجت فيها أوهام الطبيب المرحوم عبد اللطيف موسى في رفح، حين لم يكن المسجد شفيعاً للقتلى أو سبباً للتريث والمعالجة المهنية الذكية بغير دماء وبغير ضحايا من الشُبان المغرر بهم. فقد كان بعض الصبر والمهارة في إدارة الأزمات، كفيلاً بتحويل واقعه الإعلان عن قيام الإمبراطورية الإسلامية من رفح الى الأندلس، الى نكتة أو لقطة من برنامج الكاميرا الخفيّة!
منذ اللحظة التي بادر فيها عباس الى اتهام حركة حماس بتدبير المتفجرة؛ تأثر مسار التحقيق الحمساوي وبدت عليه الرثاثة والتخبط بين الرغبة في رد الاتهام الى نحر صاحبه باتهام مضاد، أو بالاستعجال في التلميح الى نتائج دفعاً للاتهام وتبرئة للذات. وكأن عباس يتحدث بلسان الحقيقة والقَدر، وليس هو الشخض الذي يتهم أي إنسان بأي شيء، وهو الذي جعل غزة فضاءً يائساً يُنتج التطرف. كان يُفترض من حماس ألا تزيد عن جملتين أو ثلاثة في بيان مقتضب، كأن تقول إن الاتهام مردود على صاحبه، والأجهزة تباشر التحقيق. وعلى الرغم من كون قرائن المنطق وحدها تدحض الاتهام، فإننا ماضون في التحقيق المهني للتوصل الى القرائن الأمنية، ونقطة على السطر!
لكن الثرثرة والغمز والتلميح، وتصريحات غير المختصين، دخلت كلها على الخط. واللافت أن سلطات حماس بعد اتهامها بتدبير الجريمة، تواضعت كثيراً مع الطرف الذي يتهمها، بقدر ما استوحشت في التعاطي مع المتهمين وأسرهم، قبل الوصول الى الحقيقة. فهي تتحدث عن "رفع" وليس عن تقديم تقارير، الى حضرة مقام رامي الحمد الله، وعن إحاطة دولته بكل جديد. بمعنى أن رئيس دولته يمضي في الاتهامات مثلما هو ماض في العقوبات، وهم يتظاهرون بالاستمرار في الطاعة، ليصبح السياق كله استهبالاً في استهبال.
لكن الأفدح، على مستوى التحقيق الفني، هو تغييب طرفي السجال لكل الفرضيات الأخرى والتمسك بفرضيتي اتهام كل طرف للآخر. فلم يكن هناك اعتبار لفرضية أن البؤس الاجتماعي، الذي ثابر على صناعته عباس والحمد الله وحماس، ينتج التطرف حتماً، وأن الجائع يمكن بسهولة أن يُستأجر، وفي حال أن يكون عزيز النفس وضحل الثقافة، يمكن أن يُستأجر بطريقة أخرى، وهي إيهام الآخرين له ومن ثم إيهام نفسه، بأنه صاحب رسالة، وأنه يقاوم الكافرين أو يذود عن أعراض الحرائر. فعندما يكون بطن أي مجتمع رخواً، ليس أسهل من أن يتحول الى مشتل لانتاج التطرف، وهذا هو السبب الذي يجعل الأوغاد المحتلين ومسانديهم الأمريكيين يحذرون من تجويع غزة وخنق أهلها، وهذا هو نفسه، سبب غضبنا العميق من عباس وبطانته الفاسدة والغبية!
بخلاف هذه الرؤية التي نعرضها باقتضاب، ودون التجني على طرف أو محاباة طرف؛ ننتظر فك الاشتباك بين خطيْ اتهام. واحد يمثله عباس الذي يُصرّح بأنه يعرف ولديه من الحقائق ما يبرر استباق نتائج التحقيق، وآخر يصرح أو صرّح ثم سكت، أن ضباطاً في أمن عباس جَنّدوا المنفذين ودبروا التفجير. وفي الحقيقة إن الطرفين لا يتحدثان عن معرفة، وإنما يتحدثان عن بغضاء. والطرف أن كل طرف يزعم أن هدف خصمه هو تمرير صفقة القرن، بينما خازوق القرن، الحقيقي، الذي سيكتبه التاريخ ويرسمه بالألوان؛ هو ما فعلناه بأنفسنا في هذا الزمن الرديىء، أو فعله بنا الطرفان!
إن فك الاشتباك بين خطيْ الاتهام، لا يكون بغير القرائن الدامغة، وما دون ذلك ثرثرات من شأنها أن تزيد المشهد الفلسطيني بؤساً!