لا معنى للإدانة
عدلي صادق
لا معنى للإدانة
أثناء انعقاد القمة العربية في بيروت، في 27 مارس العام 2002 استبق الفتى الفلسطيني عبد الباسط عودة، بيانها الختامي، بعمل استثنائي من شأنه الإجابة على البيان قبل إصداره. فقد كان جدول أعمال المؤتمر وترتيباته، قد صيغت ـ عن سبق إصرار ـ لاستبعاد الزعيم ياسر عرفات عن المؤتمر، ومنعه حتى من أن يلقي كلمته عبر تقنية الفيديو كونفرانس!
على الجانب الإسرائيلي التقط إريئيل شارون الرسالة وعرف فحواها، فبدأ يوم 29 الهجوم الشامل بثلاثين ألف جندي، وبدأ بما يسمونه "مثلث الرعب" الذي تمثلة طولكرم التي نشأ فيها عبد الباسط، ومعها جنين ونابلس!
توغلت الجحافل في المدن الثلاث، مستهدفة كل سكانها، ثم شمل الهجوم وسط الضفة وحوصر الزعيم ياسر عرفات في "المقاطعة" التي لم يخرج منها الا للسفر لتلقي العلاج بعد أن تم تسميمه!
أعيد احتلال الضفة بالكامل، وصعدت روح ياسر عرفات الى بارئها، شهيداً كما أراد وأسمع العالمين صوته رافضاً أن يكون أسيراً مستعداً لأن يكون شهيداً، وواحداً من أربعة آلاف وأربعمئة وخمسين من الشهداء الآخرين، الذين قضوا في المجازر التي طالت الأبرياء، وبعد انتهاء العملية، بدأت الترتيبات على قاعدة حقيقتين، الأولى أن يأتي للرئاسة، بعد الزعيم الشهيد، رجل يكره السلاح والمقاومة، والثانية حاجة الشعب الفلسطيني لأن يضمد جراحه ويُعيد بناء ما تهدم ويمارس أحزانه. وكان الذي جاء، يطرح نفسه ملبياً لشروط الحياة الإطعام من جوع والتأمين من الخوف. وجرى إيفاد الجنرال الأمريكي كيث دايتون، رئيساً لفريق تدريب قوات الأمن الفلسطينية، مستعيناً بخبرته في العراق بعد احتلاله. والرجل فضلاً عن كونه جنرال، كان من دارسي التاريخ والعلاقات الدولية.
النتيجة بعد المجازر والتدمير، رُسمت لنا في النص الذي أطلقوا عليه "خارطة الطريق"، وكان الراحل د. صائب عريقات، قد بدأ يردد بعد سنة من تفعيل الخارطة:"أدينا ما علينا وفق خارطة الطريق، وينبغي العودة الى العملية السلمية". أما فخامته، فلم يطالب ولا مرة واحدة، بأن تعود جحافل العدوان، الى خطوط ما قبل مارس 2002 بحكم تأديتنا لما كان "يتعين علينا وفق الخارطة. فالخرائط تُرسم لنا وحدنا، وقد ظلت تعنينا وحدنا، حتى بعد أن زاد عليها الناقصون، بند استمرار التعاون الأمني بلا أي مقابل سياسي أو أمني يخص الشعب، واقتصر الأمر على بطاقات الشخصيات المهمة جداً في حسبة المحتلين!
لننظر هنا، في نص الخارطة، لكي نتأمل ما أريد منا وأريد من إسرائيل. فالمرحة الأولى التي تنتهي في مايو 2003 يُصار الى " وقف فوري وغير مشروط لإطلاق نار من أجل إنهاء النشاط المسلح وجميع أعمال العنف ضد الإسرائلييين أين ما كانوا، ويقوم الفلسطينيون بإصلاح سياسي شامل، بما في ذلك صياغة دستور فلسطيني وإجراء انتخابات. وتنسحب إسرائيل من جميع المناطق الفلسطينية التي تحتلها منذ 28 سبتمبر 2000 (الخطة لا تتحدث عن مزيد من الانسحابات). وتتجنب إسرائيل القيام بعمليات الترحيل وشن الهجمات ضد المدنيين وهدم المنازل والممتلكات الفلسطينية. وإعادة فتح المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، وتحسين الوضع الإنساني بما في ذلك تطبيق توصيات تقرير برتيني وتخفيف القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع، وتجميد التوسع الإستيطاني وتفكيك جميع البؤر الإستيطانية التي تمت إقامتها منذ مارس 2001"!
لعل من دواعي الترف أن نتحدث عن المرحلة التالية، لأن المرحلة الأولى نفسها جعلها المحنك من جنس الأماني التي لا يجوز المطالبة بها في السياسة. وحقق الأوغاد المحتلون خلالها أقصى أمانيهم.
اليوم بعد ثمانية عشر عاماً، لم يتحقق شيء للكيان الفلسطيني، بل إن القائمين عليه ازدادوا تخريباً له ولحياة شعبهم. فلا إصلاح سياسياً، ولا انتخابات، ولا إنسحاب إسرائيلياً من جميع المناطق الفلسطينية التي تحتلها منذ 28 سبتمبر 2000 ولا وقفاً للهجمات ضد المدنيين وهدم المنازل والممتلكات الفلسطينية، ولا إعادة لفتح المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، ولا تحسيناً للوضع الإنساني بل جرى الإمعان في الخنق، ولا تجميد للاستيطان، بل جرى التوسع الكارثي فيه، ولا تفكيك ـ بالطبع ـ لجميع البؤر الإستيطانية التي تمت إقامتها منذ مارس 2001. وهذه هي الحقيقة المائلة أمام الأعمى والبصير. فلا عباس آمن الناس من خوفٍ في جنين، ولا أطعم الناس من جوع في غزة، بل جعل اللذين يريدون المحافظة على طعامهم، في حال الخوف من قطع الرزق، مضطرين الى الهتاف: اخترناك وبايعناك، يا من فشلت في كل شيء!
في هذا الفضاء المسمم، اعتدى المجرمون على جنين، وقتلوا من أبنائنا الشباب من قتلوا، وفق خطة ومراحل الإعتداء المستدام.
جذوة الغضب والمقاومة لن تخمد، وأقصى معاني إدانة السلطة لكل جريمة، هو إعلان الرفض النظري لها، وكأننا نقول للمسكون بمقاليدها: أنتم موافقون!
لا موجب لمحض الإدانة، لأن التخلف عن تأدية السلطة ما عليها لشعب فلسطين، مثلما أدت ما عليها لإسرائيل، هو الذي يجعل إدانتها بلا معنى ومفرغة من السياسة والوطنية.