"فوانيس عتيقة" لجاسم العلي.. نزعة الشعر نحو خلخلة الثابت
"فوانيس عتيقة" لجاسم العلي.. نزعة الشعر نحو خلخلة الثابت
متابعات: يفند الشاعر العراقي جاسم العلي، مصارف مختلفة للواقع البشري، رابطا الأحداث ”الديستوبية“ (مجتمع خيالي فاسد) التي تنتاب الحياة، بالنزعة الذاتية نحو الأمان، ورغبة الإنسان في فهم سلوكه، بالتشابك مع العالم، في مجموعته الشعرية ”فوانيس عتيقة“ الصادرة عن دار ثائر العصامي للتوزيع والنشر 2021.
وتلتقط المجموعة آثار الوجع والخيبة، في الذات البشرية على طول الطريق، محاكية الصوت الداخلي للإنسان، المنطلق كنتيجة لما يحدث من صخب اندفاع الأشياء، وعبورها خلال الذهن.
وحملت أروقة ”فوانيس عتيقة“ صبغات متنوعة، توضح انفعالات الإنسان المتباينة تجاه الحدث، وتعددت هذه الصبغات الشعورية ما بين الاجتماعي، والواقعي، والرومانسي، والوطني، والوجودي. وشمل ذلك الأسلوب التقريري، والتهكمي، والعاطفي، والاستفهام، والاستغراب.
ولطالما كانت الأسئلة عالقة في قصائد العلي، محققة نزعة الشعر نحو خلخلة الثابت، وتدوير الجديد في الإنسان.
فيما استخدم الشاعر الكلمات القليلة المختزلة في تركيبة جمله، بطريقة ضمير المتكلم، والغائب، صانعا مجازا شعريا مكثفا، يمر كبرق الضوء في السماء.
وحملت تركيبات العلي مساحة واسعة من التأمل والتحليل، والإيحاء بالمعنى الثاني، بما في ذلك إعادة ترتيب الصفوف داخل الإنسان، وطرح الأفكار على شاكلة مغايرة، وفق رؤية شعرية نقدية للواقع.
ولامست قصائده القصيرة ثيمة ما بعد الحداثة الشعرية، مجارية بذلك السرعة التي يمضي بها الزمن، كمعاصرة للتوجه البشري نحو التكنولوجيا.
فكانت المجموعة المكونة من 50 قصيدة، ممتدة على 74صفحة من القطع المتوسط، تجري بالأفكار المتعددة، بما يشبه تصفح ومضات كثيفة القوام، على شاشة المحمول، عبر تطبيق فيسبوك.
الإنسان الثائر
وتظهر دعوة الشعر إلى إنقاذ الإنسان من قيده في قصائد العلي، بنداء الإنسان الثائر الباحث عن حريته وهويته.
يلتقط الشاعر مشاهد حية من ثورة العراقيين على الظلم والفساد في تشرين 2020، مصورا شكل وبناء الميادين العراقية التي احتضنت المواطنين، ومبينا كذلك كم العنف الذي تعرضوا له، بكلمات صارخة من خلال دمج اللون الأحمر بين الكلمات، وكذلك تبيين رمزية الأصابع الناعمة للنساء العراقيات في دفع الثورة إلى مكان أكثر مكانة وقيمة، لدحر سنوات عجاف تحتل الواقع العراقي.
فيما يستخدم الشاعر أدوات عدة لتلخيص الدافع البشري نحو الجمال، بالتحرر من الأقفاص، ونبذ المخاوف من النتيجة، فطالما أن الرصاص أداة الآخر، فسينفد كاشفا فراغ الآخر، لكن الحرية لا فراغ يحتويها.
يكتب العلي في هذا:
”في تشرين
بساط الموت أحمر،
وأصابع الحبيبات
مثل رمح الرب،
في قلب الخريف
2
حين تُغلَق الأفق
بوجه الريح
لا تخشى الرصاص،
أو المطر
فكلاهما ربيع.
3
زهرة الحرية أنثى،
تشاكس الليل الطويل،
على صدر الجريح
ليستريح“.
مشاهد متعددة
في حين، لا يتوقف الشعر في مجموعة العلي، من صنع الجسور بين الواقع وإشكاليات الإنسان واحتياجاته، محققا مقاربات شعورية شديدة المأساوية، والقرب أيضا، من المرء.
ويصف الخريطة الوجودية للإنسان كما يراها في الواقع، راسما بكلماته، ملامح الطريق المكتظة بالخوف والهلع من الماضي، والحاضر والمستقبل، رابطا ما بين احتمالات السجن والأذى، وما بين الذاكرة القريبة للحرب الطاحنة للمشهد العراقي مع الاحتلال الأمريكي، لسنوات طويلة.
ففي هذا استرجاع للماضي بما يحمله من مأساوية، وتذكر للتفاصيل المشبعة بالخذلان.
يضع الشاعر ازدواجية المشاهد الشعرية في التطرق والإلماح، من خلال التشبيهات القوية المعقودة داخل تركيبته الشعرية.
يقول العلي:
”كلاب الصيد خلفك،
والطريق عارٍ كأشجار المغيب!.“.
تناقضات
وعلى الرغم من سطوة مشاعر القلق في نصوص العلي، إلا أنه يؤكد تمسك الإنسان بتناقضاته، وتحولاته، ومجاراته لذاته ورغبته، كما يجاري معظم الحوادث من حوله.
فيراهن على هذا التنوع التركيبي للإنسان، بل وقدرته على صنع النقيض للمناخ السائد. فيعمد إلى تجزيء وجوده وكينونته إلى مسارات متنوعة لا يغيب من بينها الحب، فهو ملاذ المرء وسط تكدس الخيبات، ورايات الموت المرفوعة في سماء بلاده.
يكتب الشاعر:
”أنا المتوزع دوما
بين موتي
وحبي
وارتجافي“.
تكرار العالم
فيما يتضح من سلوك العلي الشعري، توجهه إلى الابتعاد عن الصور المألوفة، واستحداث ما هو خارج الصندوق، على طريقة الشعراء المجددين، مبتعدا قدر المستطاع عن الصور المنسوخة، والمعالجة بالمونتاج الشعري، لتبدو جديدة، فلا يتجدد الشعر من هذا، وإنما من الخروج عن سلوكه المعتاد.
يقول أدونيس: ”أعطيت اللغة الفنية للمبدعين لكي لا يكرروا العالم“، هذا التكرار الرتيب، الذي يبقى العالم دون نمو أو مساحة أخرى يمكن تجريبه من خلالها.
وفي هذا الإطار يقول العلي:
”تُرى من يُفوّج،
في تداخل هذه البحار،
كي يفسرَ للحزن،
معنى التضاؤل؟“.
"إرم"