كل السبّورات قابلة للمحو إلا سبورة الحب
كل السبّورات قابلة للمحو إلا سبورة الحب
من جديد يفتح الشاعر وسام هاشم صرّة الماضي الذي يحمله معه مثل وشم مطبوع على قلبه الذي ينبض لكن ثمة سكين مغروس فيه، فالحياة في المغتربات تطيل خيط التأمل ولا تقصرّه وهو العارف كونه واحداً من الأصوات الشعريّة المتميّزة المنتمية لجيل الشعراء الثمانيين العراقيين لكنّها اللوعة التي تستعر مثل نار لا تريد أن تبرد أو تنطفئ عند الشاعر فالسبّورات محاولة لاِعادة تصحيح خطأ الكتابة من جديد
لتفكيك لحظات حرجة من التاريخ شكلت حياته والذين معه وكشف المسكوت عنه أمام القراء، تبدأ بقصيدة "سبورة لرسم الفراشات والغبار فقط " كما يقول في هذا المقطع:
"السماء في الحقيبة والمقصلة في النهار
وأنا وأنت في نجمة
للطين نعود حتى لو إنزلقت أقدام إبن المعلم ومعها البلاد"
أو في هذا المقطع من ذات القصيدة:
" في شباك المدرس خيط من الحرب وسخام منها"
" في الرصافة تركنا على جدار المنزل
كلمة: يسقط وهربنا
في الكرخ سقط المنزل"
إنها البداية والنهاية معا ًيسردهما الشاعر وهو يقف على أرض غريبة وأليفة في ذات الوقت ضججتها مداخن الحرب هاجر إليها من الطين الذي مايزال عالق بقدميه تحت سماء شاسعة تختبئ بحقيبة مرميّة قرب مقصلة ظاهرة في وضح النهار وفي الهواء الطلق وعلى جانب آخر من الأرض تكون هي الزمن المخفي
المرأة / الحبيبة /الغائبة والحاضرة / في كل إعترافاته وسرده الذي يدلي به وكأنها لحظة وداع يدوّنها في وصية سوف يضعها على طاولة صامتة لأجيال قادمة وينصرف مثل "نقطة ماء سقطت من شجرة لتعود إلى النهر" كما يذكر في أحدى القصائد السابقة في مجموعة: "قبلة في المترو" الصادرة قبل ثلاث سنوات عن دار الدرويش في بلغاريا
وخلال قراءتي لقصائد المجموعة الجديدة الصادرة عن الاِتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين في بغداد لسنة ألفين وواحد وعشرين والمكوّنة من مئتي وأربع وسبعين صفحة تضمنت القصائد المسماة سبّورات وعددها إثنان وعشرون والباقي قصائد بأسماء مختلفة، وجدت أن موضوعة الحرب عند الشاعرتكاد أن تكون حاضرة بقوة في ثيمات القصائد في المعنى الفلسفي الكلي الذي تناوله الكاتب المسرحي الألماني بريخت حينما قال في أحد نصوصه: "الوجه الضاحك لم يتسلم الخبر الرهيب بعد، يا ويلنا يكاد أن يكون الحديث عن الأشجار جريمة."
فلا غرابة أن يصف الشاعر موطنه الجديد في الدنمارك بعد عشرين عام من الإقامة فيه بالمستشفى المخصصّة للنقاهة وإعادة التأهيل النفسي كما في هذا المقطع من سبورة " الحطابين "
أنا في مستشفى ناصعة إسمها الدنمارك"
وهم في معركة شاسعة إسمها بغداد"
ليختم القصيدة بكلمة قابلة للمحو كما في هذا المقطع من القصيدة ذاتها: " الشعر كائن غير رحيم "
لينتقل لسبورة الحب معناً أنّها الوحيدة الصحيحة الباقية بين كل السبوّرات التي شكلت حياته منذ الصغر
لحد يومنا هذا: " كل سبورة للمحو إلا سبورة حبك"
لهذا هي بيضاء ولهذا هي مضيئة "
أو في هذا المقطع:
عض أصابعك أيها العمر ندماً على سنواتي
من دونها "
أو في "سبورة النهرين ونهديك"
تركضين فوق حقل أحزاني
بقدمين حافيتين وقطرات من أفخاذكِ
تتعرق فوق يأسي "
أو كما في "سبورة حيفا"
سبورة حيفا زرقاء لأن في حيفا لا تعيش"
سوى النجمات
يتدثر وتعريه المدينة
تتعرى ويدثرها البحر"
ثم يعود من جديد إلى ذاكرة الحرب وذكرياته معها وهي الرفيقة القريبة البعيدة التي يعترف لها فقط وكأنها الحقيقة الوحيدة التي يراها مضيئة في عتمة حياته في "سبورة القبلات "
كما في المقاطع الشعريّة الجميلة التالية:
عندما كان الله ينتظر الجنود في الكراجات
متخفياً على هيئة أمهات
كنت أنتظركِ في الحقول على هيئة
ريح تحرك غصناً ويسقط آخر"
الخميس الماء والجمعة العين"
السبت للعساكر في ساحة الشهداء
الأحد لا أحد
والاِثنين لهما
الثلاثاء ضمني أبي
والأربعاء ألقى بي في المذابح
الخميس الماء فأغسلوا نهاية الاِسبوع
وأغسلوا من آبائكم"
أنا وحيدة تهمس قبلة محطة القطار"
ضمدني تتأوه قبلة الجندي"
الحرب في درج الملابس "
فوق جدار الحديقة
في المنعطف الذي خلفه منعطف وأنين"
لا قبر للعائدين من الحرب"
ولا لغير العائدين"
الأحدب لا ينام "
ولا يصحو
وبكفيه عود خراب وبخور موت
لا قبر للأحدب
العراق له قبران"
الحرب في مترو تنتهي بعد ساعة وخارجها"
لا تنتهي أبداً "
ولا يترددّ الشاعر أن يضع عتبات حياته كلها على طاولة الشعر الذي يحاول من خلاله أن يصل إلى لحظة صفاء فريدة تشبه ذرة تراب ناجية من بركان العائلة الهائل كما في هذه المقاطع من "سبورة العائلة "
البصرة يا أبي ليست شطاً "
البصرة منفى وبلاد
والبصرة بلاد ومنفى"
أنا خائف يا أخي"
وأبي مات خائفاً "
والعراق خائف
ويدي معك "
خذلتني القنابل ودخانها "
حبيبته إلتفتت لا قبر وأنا إلتفت للقبر وهو
إلتفت لنا "
ومن قصيدة: "رثاء متأخر"
قلت لأخي هذه المرّة لا تذهب إلى المعركة "
لم يعد ولكنه نسي مفتاح بيته في الجنة
يأخي يا أخي
إترك لي المفتاح تحت عتبة الباب"
وإلى سبورات الترميز وتقمص الشخوص في سبورة " شوبان "
شوبان وأنا صديقان لا نفترق وكلانا يثرثر"
حين يقترب الموت كثيراً "
وسبورة "لمحمد خضير ومحمد زكريا "
أحب بلادي حتى لو كانت في خرم إبرة "
أو وجه مدفع
ولعل سبورة بغداد من أكثر السبّورات التي مازالت تكتب عليها أخطاء العراقيين كما في هذا المقطع:
ليس في بغداد طرقات تؤدي وليس فيها أعلام"
في الصباح ينادي المنادي والناس لا يسمعون
في الليل يئن المنادي والناس يئنون"
أو في "سبورة نفسي وبيسوا" التي تحضر فيها فنتازيا اللغة
أحمق حين فرطت ببلادي وحكيم حين فرطت ببلادي"
كل جيلي على سبورتي وكل جيلي محوته "
إلى "سبورة الغريب " غير الحاضرة الخالية من الأخطاء
سبورة الرجل الغريب فارغة "
ثم يختم الشاعر مجموعته الجديدة بقصيدتين ترسم ملامحه الحاليّة وحياته التي تعبث بها ريح السياسة القادمة من موطنه الأصلي العراق كما في:
قصيدة " في حسد الدنمارك "
أحسد هذا الرجل الدنماركي الذي يدخن
غليونه ويراقب القوارب، لا تلاحقه نشرة
الأخبار بالقنابل، ولا يعرف بلداً آخر
سوى بلاده
وقصيدة: "أخلاق آب "
وتبكي الغيمة وهي تتعرى "
إنظر تلك أحزاني ولا أعرف سرّ الأغصان
أنا بينهما ناحل وفي سرّي سرّ غلطة
العراقي "
وأغلب قصائد المجموعة الشعريّة مثل:" أيام كالا أوندا"، "قصيدة إخوتي الحقول "، "علم عراقي ". "القيامة الآن"، "طفولة "، "حب عباسي "،" كامل النثر"، "السنوات "، "حينما تنبح الفراشة " مكتوبة
بلغة شعريّة صافية لا تميل إلى الغرابة منفتحة على أكثر من تأويل ودلالة لكن ليس إلى الغموض الذي ينقل الشعر إلى مكان آخر ليس بالضرورة مدهشاً
"إيلاف"