لم تعد قوة الدول تقاس فقط بما تمتلكه كل منها من مصادر القوة المادية (الصلبة)، سواء كانت هذه القوة اقتصادية أو عسكرية، لكن هناك مصادر أخرى للقوة لا تقل أهمية، تدخل ضمن تصنيف «القوة الناعمة»، في مقدمتها ما تحظى به كل دولة من تماسك وتجانس في بنيانها الاجتماعي والسياسي. قوة هذا التماسك أو ضعفه يعد من أهم مؤشرات قوة الدولة أو ضعفها.
وهذا النوع من أنواع القوة بالتحديد، يحظى بكل الأولوية داخل الكيان «الإسرائيلي» باعتباره «كياناً مصطنعاً» حيث جرى شراء واستيراد شعب هذا الكيان بإغراء جاليات يهودية، تعتنق الديانة اليهودية وتعيش في دول متناثرة في أنحاء الكرة الأرضية وتحمل جنسياتها، وباتت جزءاً لا ينفصل من نسيجها الاجتماعي، تتحدث لغتها وتحمل أفكارها وقيمها الحياتية، بل وأنماط الحياة الاجتماعية والسلوكية في تلك الدول.
كانوا مواطنين في دولهم، وربما كانت لهم حظوة، أو لبعضهم في تلك الدول، وربما كان العكس، حيث كان بعض اليهود في بعض الدول يعيشون العزلة داخل معازل اجتماعية سكنية خاصة في قلب أحياء مدن تلك الدول (جيتوهات)، وفجأة ظهرت خطة تستهدف إغراء أو تهديد تلك الجاليات ودفعها لنقل حياتها من دولها كي تستقر في وطن آخر، يحقق حلماً تاريخياً لليهود، جرى تصنيعه أو تأليفه هو الآخر بأن هذا الوطن البديل الذي يحمل اسم «فلسطين» هو «الوطن الموعود» من الرب، أو «أرض الميعاد»، وأنهم، أي هذه الجاليات المتناثرة هنا وهناك في عشرات الدول متباينة الهوى والهوية، هم شعب واحد جديد اسمه «الشعب اليهودي» أو هم «أبناء الرب» أو «شعب الله المختار» مسميات جرى اختلاقها من أكاذيب توراتية استهدفت «تحويل الأكذوبة إلى حقيقة».
وهكذا استطاعت الوكالة اليهودية الدولية أن تنفذ التكليف الذي أسست من أجله، حسب مقررات «مؤتمر بازل» الصهيوني الأول عام 1897، الذي قرر إنشاء دولة يهودية في فلسطين، برعاية دولية، لعبت فيها دولة الاحتلال البريطاني الدور الأساسي، ابتداءً من «وعد بلفور» 1917بعد عام واحد من «اتفاق سايكس- بيكو» البريطاني - الفرنسي لتقسيم الدول العربية.
هذه الحقيقة لا تغيب لحظة عن قادة الكيان، أي حقيقة أن شعبهم، أليس شعباً طبيعياً مثل شعوب كل الدول، ولكنهم أقرب إلى الأعضاء المساهمين في شركة استثمارية تستهدف الربح، جاؤوا لجني الثمار والأرباح، ومن ثم فإن واجب القيادة السياسية في الكيان أن تحمي ليس فقط هذا الكيان من الخارج، بل وفي الأصل حمايته من أي انهيار لوحدته الداخلية، وتداعي تماسكه الاجتماعي، لأن تفكك وتداعي هذا التماسك ليس له غير نتيجة واحدة هي انهيار الكيان وسقوطه.
من هنا تأتي قيمة وأهمية، بل وخطورة الاستخلاص الذي قدمه عاموس جلعاد رئيس معهد «هرتسيليا» الذي يعد بمثابة «مؤسسة تصنيع الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي»، وهو، أي جلعاد، من يدير سلسلة المؤتمرات التي يعقدها معهد «هرتسيليا» سنوياً، أمام المؤتمر الأخير الذي عقده هذا المعهد في أواخر يونيو/حزيران الماضي وامتد إلى أوائل يوليو/تموز الفائت. فقد قدم جلعاد «شهادة» خطيرة على «حال الكيان» الآن، وصف فيها هذا الكيان بأنه «منزل محمي بجدران قوية، بينما يأكله النمل الأبيض من الداخل». وهذه الشهادة تقول إن الكيان مهدد الآن ب «افتقاد المناعة» أي تداعي التماسك الاجتماعي، أي تماسك الروابط التي تشكل مكونات ما يمكن اعتباره شعباً «إسرائيلياً». فالقوة العسكرية والاقتصادية لهذا الكيان ربما تكون في ذروتها، لكن تماسكه الاجتماعي، وربما السياسي، في مرحلة لاحقة، مهدد بالتداعي، وإذا حصل ذلك فإن الدولة نفسها سوف تتداعى وتسقط، عندما يتمكن «النمل الأبيض» أي الأمراض الاجتماعية من تفتيت طبقة الأسمنت التي تربط النسيج الذي يتكون منه «الشعب الإسرائيلي».
شهادة عاموس جلعاد، خطيرة، لأنها صدرت من شخص له مكانته المرموقة داخل النخبة الحاكمة، فهو رئيس سابق للهيئة السياسية والأمنية في وزارة الأمن (الحرب) سابقاً، ورئيس قسم الأبحاث في فيلق الاستخبارات، ومنسق أنشطة الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، ورئيس قسم الأمن السياسي بوزارة الحرب السابق، أي أن يده في قلب الأزمة، وهذا كله يؤكد جدية ما حرص على أن يدق جرسه من خطر أضحى مؤكداً في تداعى حصانة الجبهة الداخلية، سواء من منظور عمق أزمة الفساد التي تتغلغل في عمق الكيان وامتدت إلى قيادته في ظل غياب فعلي لنظام المحاسبة، وانتهاك مؤسسة العدالة، كما هو الحال في التعامل الباهت مع فساد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وعجز مؤسسة العدالة عن محاسبته، إضافة إلى انهيار النظام الصحي، وتهرب الشباب من التجنيد في الجيش «الإسرائيلي»، وتفشي الرشوة داخل مؤسسة الجيش، والعنصرية الداخلية المتصاعدة، عنصرية اليهود الغربيين (الأشكيناز) ضد اليهود الشرقيين (السفارديم)، وعنصرية كل هؤلاء ضد العرب، وضد اليهود «الفلاشا» الذين باتوا يشكلون قوة اجتماعية تعانى أعتى أنواع الاضطهاد والتهميش بل والقتل، كما حدث خلال الأسابيع الماضية، وهذا كله «نمل أبيض يأكل وينهش التماسك الاجتماعي الداخلي في الكيان» ويؤكد فشل عملية تصنيع الشعب داخل الكيان، وهذا هو التحدي الأخطر على المستقبل «الإسرائيلي» الذي بات يفتقد مناعته.
الخليج الاماراتية