بعد 7 أكتوبر مباشرة، تحدث قادة ورؤساء ووزراء، ومفكرون وإعلاميون ومن بينهم إسرائيليون، وكان أبرزهم أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، عن السياسات الإسرائيلية العدمية تجاه الشعب الفلسطيني، بدءاً من الاستيطان ومصادرة الأراضي والحصار والتطهير العرقي ونهب الموارد والقمع والعمل على إذلال الأسرى، وغير ذلك، وصولاً إلى إنكار الحقوق المشروعة المعرّفة بمئات القرارات الدولية، بما في ذلك رفض الحل السياسي للصراع وتقويض مقوماته على الأرض. كل هؤلاء قالوا: يجب التوقف عند السياق الذي أتى فيه 7 أكتوبر من أجل تجاوزه.
سابقاً، أفضت سياسات الاحتلال إلى انتفاضة شعبية عفوية عارمة هزت أركان الاحتلال، وسرعان ما عملت منظمة التحرير على تحويل الهيجان العفوي إلى فعل شعبي احتجاجي منظم، وحافظت على استمرارها وسلّحتها بأهداف سياسية ومدنية قابلة للتحقيق، والأهم أنها حيّدت آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية التي كان أقصى ما فعلته تكسير العظام وإطلاق رصاص البنادق والاعتقال العشوائي وعقوبات جماعية.
قانون «الضغط يولّد الانفجار» ينطبق على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والاحتلال الإسرائيلي الذي يمارس الضغط بأبشع صوره، وما نجم عنه من إذلال وقهر وخنق وانتهاك لأبسط حقوق الإنسان، وكان من شأن الضغط توليد رد فلسطيني من نوع هبّات شعبية في مكان واحد أو أكثر، وردود فردية عنيفة لأشخاص غير منظمين في أحزاب بعد نفاد صبرهم وعدم قدرتهم على التحمّل، ومع التكرار والمحاكاة تحولت تلك الأعمال إلى ظواهر كظاهرة الطعن والدهس وإطلاق النار. الانتفاضة والهبّة والأعمال الفردية كلها تندرج تحت بند رد فعل عفوي غير واعٍ وغير مدروس، ولا يخضع للحساب والمفاضلة والربح والخسارة، وليس له أهداف. ما فعلته «حماس» يوم 7 أكتوبر شيء آخر كونه ينتمي إلى تنظيم سياسي أمضى وقتاً طويلاً في الإعداد للهجوم، وبعد عامين تحاول «حماس» تبرير 7 أكتوبر كرد على العدمية الإسرائيلية كما جاء في كراس جديد تحت عنوان «روايتنا». والذي تساوق مع العفوية، وتنكّر لدور الوعي والمعرفة والتجربة، فعندما نكون أمام رد تنظيم سياسي على العدمية الإسرائيلية، لا يجوز تجاهل الحسابات والتقديرات التي تنطلق من معرفة ميزان القوى وعناصر القوة والضعف والخسارة والربح والمخاطر، والشروط المواتية وغير المواتية، والشكل الملائم للنضال، والأهداف القابلة للتحقيق. بعد عامين على حرب الإبادة من حق كل فلسطيني أن يسأل: هل كان رد «حماس» بإعلان حرب شاملة لوقف العربدة الإسرائيلية صائباً؟ وماذا حققت «حماس» من الأهداف التي عرضتها في بيان الطوفان يوم 7 أكتوبر؟ يقول كراس «حماس»: «لم يكن 7 أكتوبر مغامرة أو سلوكاً انفعالياً، بل خطوة محسوبة تعبّر عن إرادة الأمل وتصحيح المسار، خاضها أبناء فلسطين بوعي وتخطيط وثقة بالله، مؤمنين أن التضحية طريق الخلاص».
أي تقدير عقلاني وموضوعي للعناصر السابقة سيصل إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكن فتح حرب مواجهة مع حكومة عنصرية تملك رابع أقوى جيش في العالم وأضخم ترسانة في الشرق الأوسط، وتضع نفسها فوق القانون بدعم أميركي وتواطؤ دولي، وتتحكم في كل مقومات حياة المجتمع الفلسطيني: ماء، كهرباء، غذاء، دواء وعلاج وعمل المستشفيات، وقود، اتصالات، منتج زراعي وصناعي، صيد بحري، عمل بنوك وحركة الأموال، المدارس والجامعات، استيراد وتصدير، وصول السلاح والذخائر، والمعابر والحواجز والبوابات التي تفصل الأراضي المحتلة عن الخارج وعن بعضها البعض، عدا ذلك لا يوجد أماكن حماية للمجتمع في حال تعرضه للقصف والاجتياح، ولم توفر «حماس» حداً أدنى من ملاجئ آمنة على الأقل للأطفال والحوامل والمسنين والمرضى والجرحى كجزء بسيط وضروري من عملية تأمين الملاجئ للقيادة والجهاز العسكري في أكثر من 400 كيلومتر من الأنفاق المحصنة تحت الأرض.
قفزت قيادة «حماس» عن كل هذه العوامل والمقومات الضرورية وأعلنت حرباً، وكأنها مواجهة بين جيش وجيش، وردّت دولة الاحتلال بحرب إبادة ومحو وتهجير، بغطاء ودعم دولي منقطع النظير تحت بند «حق إسرائيل في الدفاع عن شعبها». دخول «حماس» في حرب شاملة بالمواصفات المعروفة لأبسط الناس الذين يعيشون تحت الاحتلال لا يمكن تسميته إلا مغامرة بل مقامرة بحياة ومستقبل شعب. والأنكى من ذلك أن «حماس» بعد عامين تقول في كراسها: إن هجومها محسوب، والجديد أنها دمجت الشعب في مغامرتها بالقول: «خطوة محسوبة خاضها أبناء فلسطين بوعي وتخطيط».
كان الرد الإسرائيلي الوحشي الفاشي المغطى دولياً كافياً لانسحاب حركة «حماس» من المواجهة، شأنها في ذلك شأن أي جيش أو قوات مقاومة عندما تجد نفسها وقد وقعت وأوقعت شعبها في حقل ألغام شديد الخطر. يكون الانسحاب واجباً لتقليص الخسائر البشرية عبر وقف المجازر والتدمير والتجويع والعذاب، من خلال نزع الذرائع كتسليم الرهائن وتبادلهم مع أسرى فلسطينيين، والتراجع عن المقاومة المسلحة الفاشلة، وتراجع «حماس» عن حكمها، تنازلات تقدمها «حماس» - وهي تعرف حق المعرفة أنها لا تستطيع الاحتفاظ بها - في مقابل وقف حرب الإبادة وقطع الطريق على خطر المحو والتهجير والمعاناة الشديدة، ودون أن تتنازل عن الأهداف الوطنية. بعد عامين وافقت «حماس» على خطة ترامب وشروطها الأسوأ بما لا يقاس عن الشروط التي عرضتها إدارة بايدن، حيث تنص خطة ترامب على استسلام «حماس» وتدمير بنية المقاومة ونزع السلاح والوصاية الدولية على قطاع غزة والوضع الفلسطيني برمّته. وافقت «حماس» على صك استسلام ووصاية مع فارق في عدد الضحايا من 30 ألفاً إلى ربع مليون، ومضاعفة التدمير أضعافاً مضاعفة ليصل إلى 90%. هل كان انسحاب «حماس» من المواجهة ممكناً؟ الجواب: نعم.. فقد كان نزع الذرائع من حكومة حرب الإبادة يلتقي مع بنود إعلان طوكيو للدول السبع الكبرى بقيادة إدارة بايدن حول الحرب، وكان ينص على: وقف الحرب، إعادة الرهائن الإسرائيليين ومبادلتهم، ورفض احتلال قطاع غزة أو ضم أجزاء منه، ورفض التهجير القسري إلى خارج قطاع غزة، نزع السلاح وتحويل قطاع غزة إلى منطقة لا تهدد أمن إسرائيل عسكرياً. والتأكيد على وحدة القطاع والضفة الغربية وصولاً إلى حل الدولتين من خلال الشرعية الفلسطينية. وكان الموقف العربي الرسمي يؤيد ذلك، وجزء من المعارضة والرأي العام الإسرائيلي يؤيد إنهاء الحرب. عدا احتمال تفاقم النزاع الداخلي الإسرائيلي في حالة قبول حكومة نتنياهو هذا الحل، فإن النزاع الداخلي الإسرائيلي مرشح للاشتعال مع المعارضة والمؤسسة الأمنية على خلفية مسؤولية الحكومة عن 7 أكتوبر، يضاف إليها قضايا الفساد السابقة. وقد يؤدي قبولها بالاتفاق إلى انفراط تحالفها مع الثنائي الفاشي بن غفير وسموتريتش (14 مقعداً) وسقوط الحكومة المدوي، وفي حالة رفض حكومة نتنياهو لوقف الحرب، فإنها ستتعرض لضغوط داخلية وخارجية وإلى مزيد من العقوبات والعزلة والنبذ.. وللحديث بقية.