كلٌ بما وُهِب، وكلٌ بما وَهَب.
تلك هي معادلة يتحقق فيها أهم عناصر الانتماء للمجتمع؛ فهي التي يتجلى فيها مبدأ الحقوق والواجبات، أكان ذلك في الحياة الخاصة والعامة على حد سواء.
إنما فضاءان متكاملان، ويكتملان بما علينا من واجبات نقدمها وحقوق نحصل عليها، وبذلك فإن ذلك هو ضمان الاستقرار وديمومة الحيوية في البيت وخارجه.
ففي الوقت الذي نمضي فيه مع التقاليد والقيم والعرف فيما يتعلق بواجبات الفضاءات الأسرية والاجتماعية، بما على كلّ منا تقديمه من واجبات والحصول عليه من حقوق، فإن الحال كذلك مع المجتمع كحاضن للأسر، والذي هو أسرتنا الكبيرة، وطننا وقوميتنا، بل والمجتمع الإنساني بأسره.
هو مبدأ متوازن قديم جديد، تجلى كأهم ما تجلى في «العقد الاجتماعي» المشهور، الذي نسب للمفكر العظيم جان جاك رسّو ومجايليه، «والذي يقوم على فكرة اتفاق ضمني بين أفراد المجتمع والحكومة لتحديد حقوق وواجبات كل طرف، ويُعدّ أساساً لتبرير الشرعية السياسية المستمدة من «إرادة الشعب».
وهو مبدأ يحقق العدالة الى الحدّ الممكن والمقبول. وكثيراً ما تأملنا وغيرنا باختيار اصطلاح «العقد الاجتماعي»، حيث نجد المضمون يتجاوز المستوى الاجتماعيّ الى منظومة المجتمع. ولكنّ ما يرضينا هنا هو كلمة العقد، التي تعني التعاقد الاختياريّ، والذي يجد العيش المشترك الآمن، هو استحقاق لهذا العقد، الذي من المفترض أن ينعم المجتمع بواردات البلاد، وألا يسطو أحد على حرية أحد، في ظل منح الدولة سلطة العدل. وهنا يمكن للمواطن الحصول على الحد المقبول يوازي ما يقدمه، وللمواطن أن يطوّر مصادر دخله وعلمه وثقافته وفق مقتضيات القانون.
وهكذا مضت بلاد العالم، كلٌ وما تختاره من عقود اجتماعية وسياسية، لتحقيق حياة فضلى، حيث تمنح الدولة-المجتمع القائمين/ات على تحقيق هذا العهد-العقد ميزّات الاحترام والتقدير، حيث تربط الأمم احترام الحكام باحترام الحكام للعقد القانوني والدستوريّ، وتحقيق المصلحة العليا للجمهور، وليس فقط مصلحة نخب معينة.
تشكّل الحالة الفلسطينية وضعاً فريداً، فنحن شعب ننتمي له من خلال قيمتين هما الوطنية والمواطنة معاً، كوننا ما زلنا تحت الاحتلال من جهة، وكوننا نعيش في مجتمع مدنيّ تتبلور فيه قيم المواطنة منذ 3 عقود، مع تأسيس السلطة الوطنية، ككيان سياسيّ، كما هي المواطنة لدى مجتمعات الدول المستقلة ذات السيادة.
منذ تأسيس سلطتنا الوطنية، وجدل الحقوق والواجبات يتكرر ويتفاعل ويتعمّق، انطلاقاً من مصالح عامة وخاصة في الوقت نفسه، ولم تمض بضع سنوات، حتى ظهر النقد موضوعياً ومصلحياً، زاده بالطبع عدم الاتفاق السياسي لما تمّ عام 1993، بوجود معارضات غريبة من نوعها، لم تشكّل جذباً للجمهور، فإن كان هناك ما يعتري السلطة من ثغرات، فإن لدى الفئات المعارضة ثغرات أكبر وأكثر، وصولاً لما نحن فيه الآن، ولسنا ممن يميل الآن الى التقييم، من باب «أنقذني أولاً ودع الملامة لاحقاً»، والذي قاله مَن قارب على الغرق، لمن لامه على دخول الماء بدون القدرة على العوم. فكلنا كما يبدو ننتمي لثقافة متشابهة، في النظر الى المنجزات والمكتسبات.
وهكذا، فإن التفسير الأخلاقي الوطني، يعني في المقام الأول البذل، وتحضرنا هنا أغنية عليّة التونسية «حبايب مصر»، والتي فيها تغني:
«منقولش إيه اديتنا مصر قول هاندي إيه لمصر»
مطلوب من كل وطني من كل وطنية
ظهرت الأغنية في ربيع عام 1973 وهي من كلمات الشاعر مصطفى الضمراني، ومن ألحان الموسيقار حلمي بكر.
والتي ابتدأها بقوله:
مطلوب من كل مصري من كل مصرية
من كل أب من كل أم من كل أخ من كل أخت
وهنا يذكر الشاعر دوافع الاستحقاق والوفاء بما قدمه الوطن:
على صدرها نمنا على حسها قمنا وبشمسها الحلوة نورنا أيامنا
وفي حضنها دفينا وفي ضلها مشينا وقلوبنا لو عطشت نيلها بيروينا
مصر النجاة مصر السفينة
ادتنا الأمان مصر أدتنا الحنان مصر ادتنا الكرامة مصر ادتنا الجمال مصر
وهنا يطلب الشاعر الضمراني من الشعب:
ادوها الحياة واكتر من الحياة، ادوها عمركم، ادوها فكركم،
ادوها حبكم، وافدوها بدمكم، ادوها اغلى شيء، ادوها كل شيء.
وهذا يعمق ما ابتدأت به القصيدة. ولعل هذا هو المطلوب من كل مواطن ينتمي لوطنه، من كل فرد منا، أكان أبا أو أمّا أو أخاً أو أختاً.
كنت طفلاً أقل من 6 سنوات حينما سمعتها أول مرة، ولم يمض على دخولنا الصف الأول الابتدائي شهر، حتى سمعنا عن حرب عام 1973 والتي لم نعرف منها غير الطائرات التي كانت تعبر سماء المدرسة تاركة خلفها خطوط الدخان التي نتعجب ممن يرسمها هكذا. ولكننا بقينا نسمع الأغنية كثيراً حتى الآن، وزاد من حضور الأغنية إقامتي في مصر خلال الدراسة، حيث كانت الأغنية مثل السلام الوطني.
أبدع الضمراني وبكر وعليّة التونسية، كلّ في مجاله، في قصيدة غنائية مكتملة الأركان من معان منتظمة، في سياقين فكريّ ونفسيّ، ومن ملحن عظيم اختار موسيقى تعبر عن المعنى السامي، ومن فنانة، غنتها من عمق انتمائها لمصر التي عاشت فيها وأبدعت.
ولعلنا نذكر في هذا السياق الفني-الوطني أغنية «أنا مواطن» للفنان التونسي لطفي بوشناق، التي انتشرت بشكل كبير قبل 17 عاماً، والتي في لحظة منها يبكي فيها الفنان. وهي تحتاج وقفة خاصة، ولكننا هنا في هذه العجالة نقف عند زهد الشاعر بامتيازات النُخب الحاكمة، والاكتفاء بالوطن:
انا حلمي بس كلمه ان يظل عندي وطن
لا حروب ولا خراب لا مصايب لا محن
خدوا المناصب والمكاسب لكن خلولي الوطن
يا وطن وانت حبيبي انت عزي وتاج راسي
انت يا فخر المواطن والمناضل والسياسي
انت اجمل انت اغلى انت أعظم من الكراسي
وبعد، فإن القيام بالواجب أمر قانوني تعاقدي من الحاكم والمحكوم على حدّ سواء، فإن قمنا بواجباتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأسرية، والوظيفية في مجال العمل العام، فإننا سنضمن الحدّ الأدنى من العيش المقبول، وربما يفوق ذلك، فيصير لحقوقنا معنى، وناظم ذلك كله القدوة الحسنة، بل والمحاسبة والمساءلة كما ينبغي لمجتمع مدني وشعب يعيش تحت الاحتلال.
أما ما نطمح له، والحالة كذلك، فهو الميل لتقديم الواجبات أكثر قليلاً من الحرص على تلقي الحقوق، بمعنى أن بعض العطاء هنا منا، كل حسب طاقته وقدرته، يعني المزيد من الاستقرار والمحبة لما للتضامن من سحر خاص بين البشر وعليهم.