مشروع «شروق الشمس»: رهان الإعمار وحدود السياسة في مستقبل غزة والدولة الفلسطينية!!
نشر بتاريخ: 2025/12/23 (آخر تحديث: 2025/12/23 الساعة: 17:18)

في لحظة فلسطينية شديدة القسوة والألم، تتقاطع فيها آثار الحرب مع مخاطر التهجير القسري وانسداد الأفق السياسي، يعود الطرح الأميركي إلى الواجهة عبر مشروع «شروق الشمس» لإعادة إعمار قطاع غزة. المشروع ضخم في أرقامه وطويل في مداه الزمني، لكنه ملتبس في دلالاته السياسية، إذ يُقدَّم بوصفه خطة إنقاذ عمراني واقتصادي، فيما يطرح أسئلة عميقة تتعلق بالسيادة والحقوق ومستقبل القضية الفلسطينية برمّتها.

فهل نحن أمام رهان واقعي على الإعمار كمدخل لتثبيت الفلسطينيين على أرضهم ووقف مشاريع التهجير؟ أم أمام محاولة جديدة لإدارة الصراع عبر إعادة إنتاج منطق «السلام الاقتصادي» بلباس أكثر حداثة، يؤجل الحل السياسي بدل أن يمهّد له؟ هذا السؤال لا يخص غزة وحدها، بل يمتد ليطال مستقبل الدولة الفلسطينية وحدود ما يمكن للاقتصاد أن ينجزه في ظل احتلال لم يُهزم بعد.

يقترح جاريد كوشنر، أحد مهندسي «صفقة القرن»، إعادة إعمار القطاع على مدى عشر سنوات على الأقل، بكلفة تُقدَّر بنحو 112 مليار دولار، مع تصور لتحويل غزة إلى مدينة تكنولوجية ذكية، تُنفذ على أربع مراحل تبدأ من رفح جنوبًا، مرورًا بخان يونس، وتنتهي في مدينة غزة شمالًا. وتفترض الخطة مساهمة أميركية بنحو 20% من التمويل، مقابل اعتماد واسع على دول إقليمية، من بينها قطر ومصر وتركيا ودول خليجية.

على خلاف الانطباع الشائع، فإن الجهات السياسية اليمينية والصهيونية الدينية المتطرفة في إسرائيل قد لا تكون متحمسة لهذا المشروع، بل ربما هي الأكثر قلقًا وترددًا. فإسرائيل، التي لا تزال تعشعش في أوساطها السياسية والفكرية المتطرفة أوهام «إسرائيل الكبرى»، ترى في المشروع كابوسًا وخطرًا على مخططات التطهير العرقي و«التهجير القسري» للفلسطينيين. ومن هذا المنطلق، تنظر بعين الريبة إلى أي مشروع يكرّس بقاء الفلسطينيين في أرضهم، ويحوّل غزة من مساحة مدمرة قابلة للتفريغ السكاني إلى كيان عمراني واقتصادي قابل للحياة. غزة المُعمَرة، المتماسكة سكانيًا، تُفشل سردية «غزة غير القابلة للعيش»، وتُضعف الرهانات على إعادة هندسة الجغرافيا بالقوة، مما يجعل الإعمار تهديدًا استراتيجيًا مؤجلًا لإسرائيل لأنه يعيد تثبيت الفلسطينيين سياسيًا وأخلاقيًا وقانونيًا على أرضهم.

في المقابل، قد لا تمانع السلطة الفلسطينية وحركة حماس – مع تحفظات متفاوتة – في القبول بالمشروع، لا باعتباره حلًا سياسيًا، بل كخيار اضطراري يهدف إلى وقف التهجير وحماية حق الفلسطينيين في البقاء والصمود. فالقبول هنا لا يُقرأ بوصفه تنازلًا عن الحقوق، بل تكتيكًا مرحليًا في لحظة اختلال حاد في موازين القوى. هذا الرهان بعيد المدى يستند إلى تثبيت الوجود الفلسطيني وتحسين شروط الحياة، بما قد يفتح نافذة مستقبلية لتحول في موازين القوى، سواء باتجاه إحياء حل الدولتين على أسس أكثر عدالة، أو الدفع نحو خيار الدولة الواحدة ثنائية القومية كحل تاريخي للصراع.

فكرة السلام الاقتصادي لا تبتعد كثيرًا عما هو مطروح حاليًا، غير أن جوهر الإشكالية يكمن في أن مشروع «شروق الشمس» ليس منفصلًا عن فلسفة «السلام الاقتصادي» التي طُرحت سابقًا في مؤتمر المنامة، والتي سعت إلى استبدال الحقوق السياسية بحزم استثمارية. فالتنمية، مهما بلغت، لا يمكن أن تكون بديلًا عن السيادة ولا تعويضًا عن الحرية. التركيز على الاقتصاد بمعزل عن إنهاء الاحتلال يعيد إنتاج الوهم ذاته؛ أي أن الفلسطيني يمكن «إدارته» اقتصاديًا بدل الاعتراف به كشعب صاحب حق. وهنا يكمن الخطر، إذ يتحول الإعمار من مدخل محتمل للاستقرار إلى أداة لتجميد الصراع لا لحلّه.

عقدة التنفيذ تفترض التزامًا ماليًا ضخمًا من أطراف إقليمية ودولية، لكن السؤال الجوهري يبقى: من سيغامر بضخ عشرات المليارات في قطاع لا تزال إسرائيل تتحكم بمعابره وسمائه وبحره وقدرته على الاستيراد والتصدير؟ من دون رفع الحصار وضمانات سياسية واضحة، سيبقى أي إعمار مهددًا بالتدمير في جولة حرب قادمة، وستظل «المدينة الذكية» شعارًا أكثر منها واقعًا قابلًا للحياة.

تنفيذ مشاريع إعمار كبرى بمعزل عن رؤية وطنية جامعة قد يُكرّس الفصل بين غزة والضفة الغربية، ويدفع باتجاه كيان اقتصادي منفصل، ما يقوّض عمليًا فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة ويعيد إنتاج سيناريو «الدولة المؤقتة» أو «الكيان الوظيفي». خلاصة القول، غزة تحتاج إلى إعمار شامل وعاجل، لكن الإعمار بلا سياسة عادلة، وبلا إنهاء للاحتلال، وبلا وحدة وطنية، سيبقى مشروعًا هشًّا.

إن «شروق الشمس» كفكرة لإعادة الإعمار قد يخفف المعاناة ويوقف التهجير مؤقتًا، لكنه لن يصنع سلامًا حقيقيًا ما لم يُربط صراحة بحقوق الفلسطينيين السياسية وبمشروع تحرري واضح المعالم. في الحالة الفلسطينية، الإعمار ليس بديلًا عن الحرية، بل اختبار لإرادة المجتمع الدولي: هل يريد إنقاذ الإنسان الفلسطيني، أم الاكتفاء بإدارة أزمته؟ يبقى الأمل أن يجتمع شمل الفلسطينيين، ويأتوا صفًا واحدًا، لتكون كلمتهم الفصل في مشروع يخص مصيرهم ومستقبل قضيتهم.