أين الجبهة الداخلية للشعب الفلسطيني؟
نشر بتاريخ: 2025/12/17 (آخر تحديث: 2025/12/17 الساعة: 18:36)

بعد السابع من أكتوبر، حين دقّت طبول الحرب على قطاع غزة، تكشّف المشهد الفلسطيني على حقيقةٍ موجعة: جبهة داخلية جرى التخلي عنها في اللحظة التي كانت الحاجة إليها أشدّ من أي وقت مضى.

وبينما كانت الصواريخ تتساقط على البيوت، والمجازر تتناثر في الأزقة، انشغلت مؤسسات المشهد السياسي—من سلطة وطنية إلى فصائل مقاومة—في تشييد حصونٍ تحمي ذاتها، لا شعبها، وكأن البقاء تحوّل إلى مشروعٍ فردي، لا مشروعًا وطنيًا جامعًا.

لقد أُهملت أهم ركائز الصمود في زمن الكارثة: الجبهة الداخلية، تلك الجبهة الخفيّة التي لا تحمل سلاحًا، لكنها تحمل ما هو أثمن؛ قدرة المجتمع على التماسك، والتنظيم، ومواجهة العدوان بوعيٍ لا يرتجف، وبأخلاقٍ لا تنهار.

أصابت الحرب الناس بالخوف والشلل، فانكمشت الحياة إلى غريزة البقاء: البحث عن الماء، والطعام، والمأوى، في وقتٍ غابت فيه الجهات التي كان يفترض بها أن تنظّم المجتمع، وتراقب أداءه، وتضبط إيقاعه، كي لا يتحوّل من ضحيةٍ للعدوان إلى ضحيةٍ للفوضى والانهيار الداخلي.

ما هي الجبهة الداخلية؟

ليست شعاراتٍ ولا مؤتمراتٍ صحفية، بل منظومة حماية مجتمعية تقوم على خمسة أعمدة أساسية؛ إذا سقط أحدها، سقط الوطن قبل المخيم:

1. وقف زحف العملاء والجواسيس

في كل حرب تتسع مساحة الاختراق. والاحتلال لا يحتاج سوى ثغرة صغيرة ليُسقط حيًّا كاملًا. تبدأ الجبهة الداخلية الحقيقية من سدّ أبواب التخابر، وملاحقة كل من يعبث بأمن المجتمع أو يبيع معلومة قد تودي بحياة عشرات الأبرياء.

2. كبح جشع التجّار ومصاصي دماء الأزمات

بينما قصفت الطائرات سماء غزة، حاصرت الأسعار الناس على الأرض. احتُكرت السلع، وارتفعت أثمان الغذاء والدواء، واستغل البعض دماء الشعب لتضخيم أرباحهم. هنا كان يجب أن تتدخل الجبهة الداخلية بحزم، وتفرض القانون، وتوقف هذا الانفلات الأخلاقي الذي لا يقلّ خطرًا عن صاروخٍ يسقط على منزلٍ آمن.

3. محاسبة اللصوص وسارقي المال العام

الحرب تفضح المعادن. وقد ظهر من ينهب المساعدات، ويستولي على موارد مخصّصة للفقراء والنازحين. هؤلاء لا يقلّون خطرًا عن الاحتلال، لأنهم يهدمون الثقة بين الشعب ومؤسساته. الجبهة الداخلية كان يفترض أن تكون السور الذي يمنع العبث بمقدّرات الناس في زمن الموت الجماعي.

4. دفن الإشاعات ومحاسبة مروّجيها

الإشاعة في زمن الحرب أخطر من الرصاصة. فهي تبثّ الذعر، وتشلّ التفكير، وتُحدث انهيارًا نفسيًا عامًا. الجبهة الداخلية مطالبة بإدارة الحقيقة، وضبط الخطاب العام، ومحاسبة مروّجي الأخبار الكاذبة قبل أن تتحوّل إلى فوضى شاملة.

5. الإعلام، والعلاقات العامة، والتعبئة الفكرية

وهي المحرّكات التي ترفع الروح المعنوية، وتدعم صمود المجتمع. إعلامٌ مهنيّ صادق، وعلاقات عامة تراقب الفعل وردود الفعل عبر التغذية الراجعة، وتدير الأزمات بالعصف الفكري، وتعيد شحن الوعي الجمعي بالثقة، بعد أن بعثرتها رائحة البارود.

هذه ليست بنودًا ثانوية، بل أركان الجبهة الداخلية التي جرى إهمالها، تاركين المجتمع في مواجهة حربين: حرب الاحتلال، وحرب الفوضى الداخلية.

إهمال الجبهة الداخلية… خيانة غير معلنة

حين تُهمل هذه الأركان، فإنك تقدّم للاحتلال خدمةً مجانية تُقدّم على طبقٍ من ذهب. خدمة قد لا تحمل اسم "العمالة"، لكنها تؤدي الدور ذاته: إضعاف المجتمع من الداخل حتى يصبح سحقه من الخارج أسهل وأسرع.

هناك عمالة مباشرة تقوم على التخابر والاتصال، وهناك عمالة غير مباشرة لا تحتاج إلى هاتفٍ ولا تمويل؛ يكفي أن تتقاعس عن حماية الناس، وأن تترك الجشع ينهش الفقراء، والفوضى تلتهم الشارع، والضعفاء بلا سند.

الخلاصة

أوجّه هذا الاتهام بوضوح وصراحة:

إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، وإلى جميع الفصائل المقاومة.

لقد أهملتم الجبهة الداخلية، رغم أنها لا تقلّ أهمية عن مقاومة الاحتلال. فالصمود ليس بندقيةً فقط، بل منظومة متكاملة تحمي البيت، والسوق، والشارع، والثقة العامة، والوعي الجمعي.

في الحرب القادمة—وهي قادمة ما دام الاحتلال قائمًا—انتبهوا للجبهة الداخلية.

فهي ليست رفاهية إدارية، ولا ملفًا ثانويًا،

بل الدرع الفولاذية التي تُصدّ سيوف الأعداء قبل أن تُشهر البندقية.