منذ اللحظة الأولى التي أطلق فيها الشعب الجزائري الشقيق، حراكه الشعبي الغامر، لتحقيق إصلاحات جذرية في بُنية النظام الوطني؛ كان موقف الجماهير الفلسطينية، حانياً متعاطفاً، وإن كانت تغلب عليه الحيرة، بحكم ما للجزائر من الحب الإستثنائي في قلوب الفلسطينيين.
فمن جهة، لا بد من تأييد الفلسطينيين للجزائريين فيما يسعون. في الوقت نفسه، ظلت هناك خشية على الجزائر الشقيقة، من أية تداعيات تؤثر سلباً على السِلم الأهلي، وعلى استقرار البلاد وعلى وحدتها الوطنية. ومن دواعي الفخر، أن الجماهير الجزائرية اجتازت اختبار الجدارة الحضارية بنجاح، إذ فوتت الفرصة على من يتربصون لبلادها، من خلال التزام المنهجية السلمية في الحراك، على الرغم من حشوده الغفيرة التي غمرت كافة أنحاء البلاد.
فضلاً عن ذلك، كان الفلسطينيون طوال أسابيع الحراك الذي بدأ في الثاني والعشرين من شهر فبراير الماضي، ينتظرون بفارغ الصبر، أن تُلبى مطالب الشعب، في أقصر مدة زمنية، وعلى النحو الذي يحافظ على إرث ثورة نوفمبر 1954، ويحافظ على احترام رموز الكفاح الوطني الباسل، وعلى كل ما هو إيجابي ومميز من تقاليد الدولة المستقلة، التي ساندت قيم التحرر وقضايا الشعوب المظلومة.
إن ما يبعث على الإعتزاز بالجزائريين، أن حراكهم كان ذو منحى تحرري وأخلاقي ومنحاز بالسليقة الى الحرية والحيوية والعدالة والشفافية، ضد الإستبداد والتكلس والظلم والفساد. بالتالي كان طبيعاً أن تؤخذ فلسطين، في الحراك، رمزاً يختزل كل المعاني النبيلة.
لم يكن الجزائريون، يعترضون على الرئيس بوتفليقه في شخصه، وإن كانوا مضطرين للاعتراض على استمرار الرجل في كرسي الحكم، في تلك الحال الصحية وفي هذا السن، ما يتيح لآخرين الحكم باسمه بغير صفات دستورية، ما يفتح المجال واسعاً لتردي الأداء الحكومي وتفشي الفساد والإقصاء وغياب السياسات الإجتماعية التي تلبي احتياجات الشعب الجزائري، ويفتح المجال للإساءة الى الرئيس بوتفليقة نفسه.
ومعلوم أن الشعب الجزائري، صبر على الوضع الخاطيء، منذ العام 2005 عندما أصيب الرئيس بوتفليقة بالانتكاسة الصحية، التي اضطرته للسفر الى الخارج. ثم صبر الجزائريون على الولاية الرابعة التي بدأت بعد انتكاسة صحية أخرى في العام 2014 أقعدت رئيس الجمهورية وجعلته يمارس ما يستيطع من صلاحياته على كرسي متحرك.
كل ذلك كان بضفاعة الرمزية التاريخية للرجل الذي تحمل مسؤوليات مركزية في بلاده منذ سن الشباب اليافع. فقد كان عضواً في المجلس الوطني التأسيسي في سن الثانية والعشرين. وفي سن الرابعة والعشرين، فور استقلال الجزائر، تقلد منصب وزير الشباب ولم يكن يتجاوز سن الرابعة والعشرين، وفي العام 1963 أصبح أصغر وزير خارجية سناً في العالم، يقود ديبلوماسية بلد بحجم الجزائر السكاني والجغرافي والأدبي.
وكان الرجل ضمن مجموعة الزعيم هواري بومدين، وهو الذي ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1974 وقدم الزعيم ياسر عرفات لإلقاء خطابه التاريخي للمرة الأولى من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وخلال فترة عمله وزيراً للخارجية، كان هو على رأس الديبلوماسية الجزائرية التي ناصرت حركات التحرر الوطني، وبخاصة في القارتين الإفريقية واللاتينية. بالتالي فإن الحراك الشعبي الذي أطاحه عن الرئاسة، لم يكن في مواجهة ذلك التاريخ الغني، وإنما في مواجهة الراهن الرديىء، الذي بدا فيه الحكم عاجزاً عن استيعاب حيوية الشعب الجزائري وعاجزاً عن تلبية حاجته الى تنمية حقيقية، وعاجزاً عن استعادة الدور الجزائري الريادي على المستوى العربي والقاري والدولي.
أحسن الرجل صنعاً، عندما تحرر من الضغوط في محيط الرئاسة، واستجاب لنداءات الشعب وقرر التنحي، لكي يفتح المجال أمام عملية الإصلاح التي يتوخاها الجزائريون، ونرجو أن تتحقق في السياق السلمي والدستوري، على النحو الذي يحفظ للجزائر استقرارها، ويلبي طموحات الشعب الجزائري الشقيق.