"هاجس" إيمانويل بوف.. عودة إلى هوامش فرنسا بين الحربين
نشر بتاريخ: 2021/08/07 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 17:44)

يوغل الروائي الفرنسي إيمانويل بوف في تفاصيل الجوهر الإنساني، وعلاقته المتشابكة مع الحياة، من خلال نماذج مختلفة للشخصيات، في روايته ”الهاجس“ الصادرة عن دار الاهلية للنشر والتوزيع 2021، وبترجمة حداثية للشاعر اللبناني بهاء إيعالي.

حيث تلتف أحداث الرواية حول شخصية شارل المهتزة الغامضة، الذي يهجر عائلته البرجوازية، متمثلة بزوجته وابنه وإخوانه، وينتقل للعيش في شارع فانف القذر الذي يمثل منطقة الطبقة الفقيرة في فرنسا، خلال ثلاثينيات القرن الماضي، تاركا ثروته للبحث عن الحرية في العزلة والاختفاء الداخلي.

وتبرز خلال تفاصيل هذا التنقل بين البيئتين، مقاربات أخلاقية، تمس الجانب الإنساني الداخلي في طريقة التعاطي مع الأمور، فيما تكشف زيف الكثير من الأقنعة الإنسانية في إبراز أو إظهار قضية ما. وتأتي خطوة شارل هذه، كنوع من الرفض لعالم ممتلئ بالقسوة، والنفي للذات البشرية المفترضة، ليقوم بنكران ذاته وتجريدها من كافة قنوات التواصل السابقة، وإعلان الانفصال عن الماضي والبيئة الذين أوصلاه إلى مرحلة تشبه الجنون.

وتركز الرواية على موقف المجتمع الضيق حول شارل، جراء قراره بالانفصال عن عالمه الصغير، والنظرة الاجتماعية وقتها التي رسمت مدى رفض المجتمع للإنسان الخارج عن السياق الاجتماعي المألوف، وتبين الأحداث مدى القمع والرفض والضغط الممارس من السياق الاجتماعي، على الأفراد لتدجينهم، واستعادتهم نسخة مكررة ضمن من حلقة تشتمل عدد كبير من البشر.

وتصنع الأحداث مشهدين كبيرين يوضحان مدى التشابه بين مركبات المنظومة الإنسانية والأخلاقية بين بيئتين متناقضتين تماما في المجتمع الفرنسي، خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وتوضح المقارنة أن التشابه هو المسيطر في خيوط كل منظومة، من حيث التفكير والسياق الاجتماعي السائد، والفارق الأكثر جدلا بينهما هو المال بمركزيته في الحياة، وكأن الكاتب أراد الخروج بنتيجة مفادها بأن الجوهر البشري يمضي بنفس الطريقة ويتكرر، رغم اختلاف البيئة والأدوات الاجتماعية. حيث يعاني شارل بيتيستو من الرغبة الدائمة في التطفل والاستغلال والخداع والشر في كلتا الحالتين، ويعاني فقدان العزلة النقية التي يطمح لها، بهدف التعرف على ذاته أخيرا.

الفروقات

يتضح بالاقتراب من شخصيات الرواية، مدى اشتغال الكاتب على الفروقات، حيث يكتسب شارل الإحساس المفرط بالآخرين، والود في التعامل، والميل لإنكار الذات، في حين أن أخاه مارك يعيش بصفات مناقضة تماما.

وتتميز بنائية الرواية بوجود الشيء الغامض دوما في استرسال الكاتب، إذ تبرز مونولوجيات مختلفة لكل شخصية، في فهمها لذاتها وتفسيرها للعالم، ورغم هذا الاختلاف، فإنه يستطيع ربط هذا كله على ميثاق واحد، وهو الجوهر البشري القائم على الرغبة.

وعلى الرغم من حسية شخصية شارل، فإن الكاتب يضع العديد من الجدل حول مدى امتلاك شخصيته للنرجسية، بالتضحية بالابن والزوجة والأهل، دون أدنى اكتراث بمشاعرهم، وهو ما أكسب الشخصية عند بوف، وهج شخصيات صمويل بيكيت، وجدلية  شخصيات ديستوفيسكي، وسحرية الواقع.

الغريب في تركيبة شارل، أنه لم يكن جديا في تحصين نفسه من التشابك الاجتماعي في شارع فانف، واهتم بانطباعات الآخرين عنه، بل تجاوب مع كافة الإقحامات التي تم توريطه فيها من قبل السكان الفقراء حوله. وهذا تنافى مع مطلبه الجواني بعزل وتصغير نفسه قدر المستطاع.

إحساس مفرط

ويلفت الكاتب عين القارئ إلى جزء مناقض، ألا وهو إنسانية شارل المفرطة في العديد من المواطن، فهو شديد الإحساس بالآخرين المهمشين الذي ركلتهم الحياة خارجها، رغم وجودهم الفيزيائي، ويرى بعينه الشاعرية، جوهر العلاقة بين الإنسان وماضيه، وكيف أن المرء يعود إلى نضارته في لحظة إحساس خارقة.

وتساءل بوف، كيف يمكن أن تكون هذه المرأة البالغة من العمر ستين عاما، التي انكسر أنفها منذ ولادتها وخداها الرقيقان غارقان في تجويف فمها، كيف يمكن أن يكون لها سلوك فتاة صغيرة، وأهواؤها عندما ردت بابتسامة غير واعية، وقالت إنني مستمتعة كثيرا. لمح شارل لحظة الطفلة النضرة التي كانت في هذا الجسد الفاني.

هذه الرواية التي جاءت في 143 صفحة، تتداخل مع نظريات التحليل النفسي للشخصيات التي صاغها فرويد ومن بعده المعلم الثاني لاكان. حيث قام علم التحليل النفسي على ثلاث ركائز، وهي: الهو، والأنا، والأنا الأعلى. وقد صارع شارل هذه الركائز من خلال انفصاله عن الهو المتمثلة بعائلته ومحيطه، وهرب إلى حي شعبي ليجد الأنا الأعلى، التي حاول ممارستها بنقاء في بادئ الأمر، لكن الهو المتمثلة بالمجمتع الشعبي داهمته بشكل أكثر حدة، من خلال التطفل والتنمر والاتهام بالعلاقة مع الطفلة جولييت.

وحين صار أمام هذا السد القائم على الشر، كان قراره الهرب من الحياة ككل، فلم يلتزم بتعليمات الأطباء من أجل مواجهة المرض، ووجد ميتا ذات يوم، معلنا انفصاله التام عن العالم.

"إرم"